سلسلة التوحيد العملي

«تفسير التدبير»... أولاً رحلة قرآنية

1 يناير 1970 04:52 م

سوف نبحر معاً في رحلة قرآنية نرى فيها عجائب وآيات وسنواجه أمواجاً متتابعة من آيات التوحيد العملي تغسل عن النفس الوساوس والظنون وتجلي عن القلب أوهاماً وغيوماً وتزيل عن العقل ركام الفكر السقيم، ونرى حقائق التدبير.
البدايه نداء التوحيد بقوله تعالى «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» قل قوله تعالى «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» قلها وردد «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» ثم أكد «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا»...
 نعم الامر لله وحده لا غيره والأمر كله ليس أمراً دون أمر، وإن نازعتك نفسك في أمر فقل لها «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ»، واسمع نداء «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» وانظر إلى القدرة في قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ» وقوله «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ» و«وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» وتأمل القوة والجلال في قوله تعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
إنه نداء الله وأمره المقدور «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا»...«وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا»، وكن على فهم لحكمة القدر في كل شيء وتأمل «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» وإذا دعوت كن على يقين «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»، وارفع صوتك وردد «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»، و«وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» و«أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ»، هكذا تحيط بك الآيات من كل جانب وتتتابع أمواج النداءات الإلهية الواضحة الجامعة لكل شيء في حياتك وحياة كل مخلوق وكل الأمم والكون بأسره.
 كل الأمور؛ أمورك وأمور كل ما في الكون، أمر همك وحزنك وفرحك ومعصيتك وطاعتك وعطائك ومنعك وبلائك ونعمائك ورجائك وخوفك وأمنك ونصرك وجبرك ورزقك وقدرك، وعملك وحركتك وسكونك، بيتك وأولادك وأحبابك واعداؤك، بلدك وأمتك وكل الامور تدبيرها بيد الله وحده فالجأ إليه وتضرع بين يديه وادعوه في كل دقائق وتفاصيل حياتك.

وقفة مع الرزق
والآن لنتأمل الآيات التي جاءت وسطها هذه النداءات، أولا آية التوحيد العظمى في سورة يونس «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».
رزق السماء ليس فقط المال والماء، بل شمس فيها غذاء ودواء ودفء وضياء، وقمر ونجم وأفلاك وليل ونهار، وملائكة يحفظون وبالوحي يهدون، وبهجة بألوان طير ورياح وهواء، وقدر وبلاء، وكما قال تعالى «وفي السماء رزقكم وما توعدون»، وأما رزق الأرض فلن تُحصيه فوق سطحها وفي جوفها وعلى قمم جبالها وسطح وأعماق بحارها وأنهارها من حب وشجر وزهر وورق وثمر وبدائع اللون والطعم والعبير، ومعدن نفيس وحجر كريم وحيوان أليف وأنعام وأسماك وعجائب الماء، وكل الرزق في الظاهر والخفاء، وهو سبحانه الذي يدبر أمر كل هذا.
وأما السمع والأبصار فسبحانه في خلقهم، قال عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ»، والعالم مبهور بما وصل إليه العلم الحديث من اكتشاف الدقة والإعجاز في خلق الخلايا والأعصاب وتكوينها وأعدادها وكيفية السمع والإبصار، هم مبهورون بمجرد اكتشافاتهم وكثير منهم محجوبون عن حبهم لربهم الخالق البارئ المصور بديع السموات والأرض، وهنا سر في الآية أنه سبحانه لم يذكر الخلق ولكن ذكر الملك، فبعد أن أبدع في ما خلق، مَلَكْ، فحفظ السمع والأبصار من العطب ووهبهما العمل بلا كلل، بل وصرفهما في نفع عباده، وهذا من أعظم الرزق وأجل التدبير.
وأما قوله تعالى «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ» فقد قال المفسرون خروج الزرع من الحب والحب من الزرع والفرخ من البيضة والبيضة من الفرخ وأيضاً المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
 
من يدبر الأمر؟
وأما قوله تعالى «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» قال الطبري وقل لهم من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهما، وأمركم وأمرَ الخلق فسيقولون الله وقال الزمخشري «يُدَبِّرُ» يقضي ويُقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحري للصواب، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، و «الأمر» أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش، وقال «وَمَن يُدَبّرُ الأمر» أي ومن يلبي تدبير أمر العالم كله؟.
تأمل أخي الحبيب أن الكفار يقولون إنه الله يقول تعالى «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ»، ثم يأتي نداء التوحيد المدوي في الكون «فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» ربكم الحق الذي يرزق من السماء والأرض، ربكم الحق الذي يحيي ويميت، ربكم الحق الذي يملك السمع والأبصار ويقدر الأقدار، ربكم الحق الذي يدبر الأمور، ربكم الحق الذي يعز ويذل ويهدي ويضل ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع وينفع ويضر وينصر ويخذل و.. و..، وقل ما شئت في تدبير الكون.
 فكيف تجعل أنت البشر هم الذين يدبرون أو تجعل أسباباً مقدورة هي المُقَدِر والقدر، قال في محاسن التأويل «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال هما اثنان لا ثالث لهما أنت أو الناس إما على الحق وإما على الباطل.
ثم جاء ختام الايه «فأنَّى تُصْرَفون» قال ابن عباس: كيف تصرف عقولكم إِلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟
أخي الحبيب عندما تحيا بالتوحيد العملي لن تقلق على رزق ولن تخاف من خلق، تسير متوكلاً على رب التدبير راضياً بحكمه وأمره، متمثلاً بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وإليك يرجع الأمر كله».

 [email protected]