كثير ما كانت تفاجئني بعض التعليقات من القراء الكرام، واكتشف أنها أكثر ترتيباً وأعمق معنى وأدق وصفاً مما كتبت، فكان أول درس تعلمته مبكراً في الصحافة هو أن هناك الكثير ممن هم في التعليقات أفضل ممن يعتلون المنصات الكتابية، وهذا شيء يجعلني دائماً أتتبع التعليقات في الصحف أكثر من المقالات نفسها أحياناً على اعتبار أن التعليقات تتفلت في جميع الجهات بينما المقال يسير في اتجاه واحد ويسقط في فخ واحد.
أما ثاني درس تعلمته، فكان الصمت، ليس بسبب حالة داخلية ما أو اكتئاب سببه ما يحدث حولنا في هذه الأيام التي لا يعلم ما في خفاياها إلا الله. ولكن لكي تنصت، عليك أن تصمت وتسمع من حولك وما حولك لتكتشف أنك لست أفضل وعياً وعملاً من الكثير ممن هم حولك، ربما هم فقط تنقصهم الحصيلة اللغوية التي جعلت منك كاتباً!
ليس في الأمر تواضع هنا، بل إنني أهيب بك عزيزي القارئ من أن تسمح لكائن من كان من الكتاب أو المفكرين أو المثقفين أو النخبة من أن يعيشوا عليكم دور الجامعين لجوامع الكلمة والحكمة والمعرفة، العادلين في موازنات الأمور، أصحاب المعالي والسعادة في مقامات الفكر والتنوير وما يصلح للناس... وأقسم لك بالله أنه لو كان الأمر كذلك، لَما وصلنا لِما وصلنا إليه اليوم من هبل على جميع الأصعدة وتفكيك شامل للهوية المشتركة، بينما جميع من في الشارع يصرخ «حريق... حريق» من دون أن يلتفت، من المفترض فيهم أن يسمعوا النداء ويطفئوا الحريق، حيث وضعوا سماعات أذن مع خاصية مانع الضوضاء، ليسمعوا من يقول لهم زخرف القول غروراً، فينفض الجمع ونولي نحن الدبر!
تذكرت كل هذا وأكثر قليلاً مما لا تسمح الصحافة بنشره، بينما كنت في أحد الدواوين أستمع إلى رأي أحد المثقفين وهو يتكلم عن الأوضاع السياسية في المنطقة، ولو كان هو الذي ألف كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي لكنت وجدت له مبرراً لكي يجلس كالطاووس، بينما يقدم مقاربة فأر يقضم في السد المنيع.
وكدت أن أقفز من مكاني وأصدر له صوت شخير النائم وهو يقظان، ثم آخذ بتلابيبه وأهزه لعله يتواضع قليلاً فيجلس كفأر ويقدم رأيه كطاووس يتباهى بذيل خلفي يمثل آخر معاقل الوحدة العربية المشتركة المتمثلة بمجلس التعاون الخليجي.
لا أدري ما السحر والجمال في فكرة التطبيع مع إسرائيل وأهميتها وما يمكن أن يبنى عليها من فوائد اقتصادية وأمنية؟ ولماذا يريدون أن يطفئوا جذوة فلسطين بأفواههم وتأبى الشعوب والله متم نوره ولو كره المرجفون في المدينة.
هنا بالتحديد قررت أن أقفز نحوه، ولكنني في اللحظة الأخيرة غيّرت رأيي وقفزت نحو «البوفيه» بدلاً من ذلك، والتهمت ما أمامي كلاجئ فقد الأمل في أن يطير الغراب بعيداً، ذلك الغراب الذي جسده (ادغار آلان بو) في إحدى قصائده وهو جاثم على حافة نافذة، لا يعرف أن يقول أو يردد سوى عبارة واحدة لا يغيرها «أبداً لن يعود».
وما إن شبعت وشعرت بأني أكلت ما يكفي لجعلي قادراً على مواصلة إحساسي بالبقاء في عالم يتلاشى... حتى قررت الانسحاق من واقع تجاري بحت قائم على الديكور في الآراء والأفكار والتصرفات، وانصرفت من فوري للمقهى، حيث هناك يجتمع المنسحقون وحدهم، فيكتب الدخان على الهواء رواية المهزومين في مساحة مشتركة.
كاتب كويتي
moh1alatwan@