تأملات حول مختارات ذات دلالات من نصوص التراث الإسلامي والأدب
الشَّيْب... بين الطِّب والدين والشِعْر
1 يناير 1970
12:08 م
كان للشيب - وما زال - نصيب وفير من الذِكْر في مواضع عدة من التراث الإسلامي المكتوب (وتحديدا في سياق القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة)، فضلا عن حضوره بغزارة متنوعة في سياقات الأشعار العربية منذ ما قبل الإسلام.
ونستعرض في التالي بعض المختارات من تلك السياقات ذات الدلالات والإرهاصات التي تتنوع بين إشارات طبية تتعلق بوظائف الجسم البيولوجية، وأخرى نفسية تتعلق بمكنونات المشاعر الوجدانية.
فالقرآن الكريم ينبئنا بأن نبي الله زكريا عليه السلام شكا شيبته وضعفه إلى الله عندما دعاه أن يرزقه مولودا، حيث أخبرنا الله عن ذلك في الآية:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (سورة مريم/4). وفي هذه الآية تحديدا، يمكننا أن نستنبط إشارة طبيّة ضمنية إلى أن المشيب يعني تناقص فرص الإنجاب تدريجيا، وأن مشيب شعر الرأس كله (اشتعل الرأس شيبا) يعني أن تلك الفرص قد باتت شبه منعدمة من الناحية البيولوجية، إلا بمشيئة من الله القادر على كل شيء.
كما يوضح القرآن الكريم في آية أخرى أن ظهور الشيب المبكر يمكن أن يحدث بسبب تأثيرات العوامل الشعورية والانفعالات النفسية الصادمة (كالخوف أو الحزن أو الهموم والغموم والكروب الشديدة). ويمكننا أن نستشف ذلك من قول الله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (سورة المُزمِّل/17)، حيث ينبئنا الله من خلال هذه الآية الكريمة بأن أهوال يوم القيامة ستُعجِّل بظهور الشيب حتى على الأطفال وصغار السن.
وفي الأحاديث النبوية الصحيحة أن أَبا بَكْر الصدّيق رضي الله عنه قالَ: «يَا رَسُولَ الله قَدْ شِبْتَ، فقالَ: شَيّبَتْنِي (سورة) هُود وأخواتها». وقيل في شروح ذلك الحديث إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أراد بـ«أخواتها»: سور «الْوَاقِعَةُ» وَ«المُرْسَلاَتُ» و«النبأ» و«التكوير»، وذلك نظرا إلى ما ذكره الله فيها من أهوال يوم القيامة ومن قصص مروعة عن هلاك أمم بسبب غضب الله عليها. ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن مشاعر الخشية والوجل والخوف تسهم في ظهور الشيب، خصوصا إذا كانت شديدة وإذا كان الشخص سريع التأثر بها نفسيا.
أما في وديان الشعر والشعراء، فقد كان وما زال للشيب ظهورات كثيرة وبدلالات شعورية ووجدانية متنوعة:
• فهذا الشاعر الفطحل أبو العتاهية قال متحسرا على فوات شبابه:
فيَا لَيتَ الشّبابَ يَعُودُ يَوْماً
فأُخبرَهُ بمَا فَعَلَ المَشيبُ
• ونُسب إلى الخليفة العباسي المستنجد بالله قوله معاتبا محبوبته:
عيّرتني بالشيبِ وهو وقارُ
ليتها عيّرتني بما هو عارُ
• وردا على امرأة وبخته بسبب استمراره في العشق رغم شيبته، قال أحد قدماء الشعراء:
وَقَائِلَةٍ خَلِّ الهَوَى لِرِجَالِهِ
إنَّ الهَوَى بَعْدَ الـمَشِيبِ جُنُونُ
فَقُلْتُ لَهَا إنَّ الهَوَى فِيهِ رَاحَتِي
ألَذُّ الكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَكُونُ
• أما هذا، فشاعر آخر كان رده لاذعا على امرأة تعجبت وسخرت من شدة بياض شعر رأسه، حيث قال:
تَعجَّبَتْ أَنْ رَأَتْ شَيْبي فقُلتُ لها:
لا تعجبي، مَنْ يطُلْ عمر بهِ يَشِبِ
شَيبُ الرِّجالِ لَهمْ زَينٌ وَمَكْرُمَة ٌ
وشيبكنَّ لكنَّ العـارُ فاكتئبي
فينا لكنَّ - وإن شيبٌ بَدا - أربٌ
وَلَيسَ فيكُنَّ بَعد الشَّيبِ مِن أربِ
• لكن هناك شعراء اكتفوا بالتعبير عن اعتزازهم بشيبتهم، كمن قال:
إِنَّ المشِيبَ رِداءُ الحِلمِ والأَدبِ
كما الشبابُ رداءُ اللَّهوِ واللعبِ
• واختار هذا الشاعر أن يرثي وينعى شبابه وفي الوقت ذاته يرحب بمشيبه على نحو يعبر عن الاستسلام للقدر المحتوم، إذ قال:
فَأَهْلاً وَسَهْلاً بِضَيـْفٍ نَزَلْ
وَأَسْتَوْدِعُ اللَه إِلفا رَحَلْ
تولى الشباب كـأن لم يكـن
وحلَّ المشيب كأن لـم يزل
فأما المشيبُ كصبح بدا
وَأَمَّـا الشَّبـبُ فَبَدْرٌ أَفَلْ
سقى الله ذاك وهـذا معـاً
فَنِعْـمَ المُوَلِّـي وَنِعْـمَ البَدَل
• وأخيرا، لجأ الشاعر الأندلسي إبن عبد ربه إلى استغلال شيبه ليعبر من خلاله عن موقف سياسي انتقادي في زمانه قائلا:
جارَ المَشيبُ على رأسِي فَغَيَّرَهُ
لَّما رأى عندَنا الحُكَّامَ قَدْ جَارُوا