ممدوح إسماعيل / وقفات مع المطاردة الساخنة في «البوكمال» السورية

1 يناير 1970 06:04 ص
بينما تسير الحكومة السورية في خطوات المفاوضات مع العدو الصهيوني عبر الوسيط التركي، وفي ظل إشكاليات متعددة لا تنتهي حول دورها في لبنان، قامت القوات الأميركية بغارة جوية مفاجئة، بواسطة أربع مروحيات عسكرية، ضد منطقة البوكمال السورية في 26 أكتوبر 2008، نتج عنها مقتل ثمانية سوريين، غير عدد من الجرحى.
توقيت الغارة كان لافتاً من وجوه عدة، الأول: أن سورية بدأت خطوات كبيرة تجاه ما يسمى زوراً عملية السلام مع العدو الصهيوني (إسرائيل)، عن طريق الوسيط التركي، وأيضاً شهدت علاقتها الدولية تحسناً مع الغرب، وخاصة فرنسا، في تطور ملحوظ، وغلب على خطابها تجاه الإدارة الأميركية الديبلوماسية، واللغة الهادئة تماماً، بخلاف لقاءات بين مسؤولين سوريين وأميركيين في اجتماعات دولية عديدة، ولا يستبعد وجود لقاءات سرية أيضاً. الثاني: أن الغارة وقعت مع سخونة الانتخابات الأميركية، وفي وقت كانت تقترب فيه من الحسم، وقرب رحيل بوش وإدارته تماماً عن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
الثالث: أن غارة مثل تلك لابد أن تنال موافقة من أعلى جهة قيادية في الإدارة الأميركية لأنها تتعرض لدولة مستقلة ذات سيادة.
لكن صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية علقت في 27 أكتوبر على الغارة بأنها: «جاءت في إطار الانتقام من عدم قدرة دمشق على ضبط حدودها التي تعتبر أحد مداخل الجهاديين إلى العراق، بالإضافة إلى أن الهجوم على دولة مستقلة يحتاج موافقة من أعلى السلطات الأميركية، الأمر الذي يشير إلى أن الغارة رسالة تحذير لدمشق من عواقب الاستمرار في التحالف مع إيران».
العالم قرأ الغارة أو الضربة الأميركية لسورية قراءات مختلفة، ومن اللافت أن بعضاً من الدول الغربية صمتت تماماً كأن شيئاً لم يحدث.
ومع تلك الغارة الأميركية لنا وقفات. أولاً: ينبغي قراءة الغارة الأميركية بدمجها مع قراءة الغارة الصهيونية التي تمت في سبتمبر 2007 لمنطقة دير الزور السورية، والتي أعلن أنها استهدفت موقعاً نووياً سورياً قيد الإنشاء. يتضح منهما أنهما رسالة ضغط وإرهاب لدفع سورية إلى الرضوخ للطلبات الأميركية - الصهيونية تماماً، والتخلص من تحالفاتها مع فصائل المقاومة الفلسطينية المتواجدة قيادتها في سورية، مثال خالد مشعل «حماس»، ورمضان شلح «الجهاد الإسلامي»، خاصة أن سورية بعد الغارة الصهيونية على دير الزور اتجهت فوراً إلى قبول دور الوسيط التركي المقبل عبر البوابة الأميركية، لتفعيل ما يسمى محادثات «وهم» السلام مع العدو الصهيوني.
الوقفة الثانية: ما يتعلق بالاتفاقية الأمنية العراقية - الأميركية، وما يثار عن اعتراض سوري متضامن مع إيران، وبعض دول الجوار العربية التي أظهرت قلقها من تلك الاتفاقية التي تكرس احتلالاً أميركياً دائماً للعراق، من خلال إقامة قواعد عسكرية أميركية دائمة، وهو ما يهدد أمن المنطقة دائماً.
الوقفة الثالثة: هي أنها رسالة تحذير وتهديد لبشار الأسد لموقفه الداعم لروسيا لتدخلها في جورجيا، في النزاع الذي جعل روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعيدان إلى الواجهة شكلاً من أشكال الحرب الباردة.
يبقى المبرر الظاهر والذي سربته الإدارة الأميركية وإن لم تعلنه رسمياً، وهو وقف تهريب المقاتلين إلى داخل العراق، وهو مبرر يدعو إلى السخرية قبل الاستنكار، فمن المعلوم أن الحرب والعدوان الأميركي على العراق مر عليه خمسة أعوام، وقد أثيرت مثل هذه الاتهامات للحدود السورية، ولكن سورية أعلنت أنها تفعل كل ما تستطيع لضبط حدودها، وبالفعل يوجد في سجونها أعداد لا حصر لهم ممن قيل أنهم كانوا يريدون الدخول إلى العراق عبر سورية، وقد أثنت وزيرة الخارجية الأميركية على الجهود السورية في هذا المجال.
ثم... هل بعد خمسة أعوام تذكرت الإدارة الأميركية مناطق الحدود السورية - العراقية؟
من الممكن فهم هذا التبرير كنوع من إحراج سورية عالمياً، خاصة بعد ما أعلن عبر وسائل الإعلام فقط عن قتل رجل يدعى أبوغادية قالوا إنه الرجل الأول في عمليات تهريب المقاتلين للعراق، ورغم علامات الاستفهام التي أحاطت بعدم تعليق الإدارة الأميركية على الغارة، إلا أنه تم الدفع ببعض المحللين لتوضيح ما يريده الأميركيون بطريقة غير مباشرة، كما جاء في تصريحات ديفيد شينكار مدير برنامج السياسة العربية في «معهد واشنطن» لصحيفة «الشرق الأوسط» الذي انبرى قائلاً: «إن هذا الاختراق جزء من تكتيك المطاردة الساخنة، الذي هو جزء من استراتيجية وضعتها الإدارة الأميركية بعد 11 سبتمبر لمطاردة الإرهابيين في أي بلد».
من الواضح أن تصريحات شينكار لصحيفة «الشرق الأوسط» خرجت من مطبخ البيت الأبيض، وذلك كي تتوافق مع التبرير المعلن لضرب سورية بتلك الغارة، ولكن كما سبق وذكرت فإن هذا التبرير يظل غير مقبول في ظل مرور خمسة أعوام على الحرب، كانت سورية خلالها تعلن أنها تضبط حدودها، ما كان يعني وقتها فقط وجود خلل وتهريب للمقاتلين، لكن الآن لا تفهم تلك الضربة إلا على سبيل الضغط القوي على سورية التي أدمنت نضال الميكروفونات، وهو نضال لم يكن مزعجاً في الماضي للأميركيين بقدر ما كان مريحاً جداً.
ولكن على الجانب الآخر يبقى لافتاً جداً إصرار النظام السوري على السكوت والصمت ثم التنديد والشجب. فقد تعرضت سورية لاختراقات عديدة من طيران العدو الصهيوني، كان أشهرها اختراق في أوائل 2007 وصل لمنزل الرئيس السوري، ثم تبعته غارة وضربة صهيونية لمنطقة دير الزور في سبتمبر 2007، تحت زعم تدمير منشأة نووية! ثم في أغسطس 2008 اغتيل أبرز مساعدي الرئيس بشار الأسد العميد محمد سليمان، وهو مستشاره الأمني المقرب! ثم كانت الغارة والضربة الأميركية لمنطقة البوكمال السورية، والتي نتج عنها مقتل ثمانية سوريين، بل إن الأخبار تتحدث عن اختطاف رجلين سوريين. وأكثر ما فعلته الحكومة السورية إغلاق مركز ثقافي ومدرسة، وأخبار فقط تتحدث عن إغلاق السفارة الأميركية، ثم خبر أخير عن مطالبة سورية للحكومة الأميركية بالتعويض.
ولكن يبقى هنا تساؤل مهم: هل الصهاينة والأميركيون يريدون إسقاط النظام السوري؟
الإجابة من تصريحات العدو، فقد نشر في شهر نوفمبر 2005 في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية آراء لمحللين عسكريين، منهم رئيس الاستخبارات العسكرية أهارون زئيفي، الذي يرى أن الحفاظ على استقرار سورية هو الخيار الأفضل؛ حيث يربط بين ما أسماه الجهاد الإسلامي العالمي ووجود أغلبية سنية في سورية، ويرى أن النهاية الحتمية لأي تدخل عسكري أميركي - بريطاني سيكون فتح الباب لنشاط الإسلاميين هناك، موجداً جهاداً على غرار بن لادن و«القاعدة»، وهو الرأي الذي يؤيده الرئيس السابق للموساد إفرايم هاليف. ويقول المحلل الإسرائيلي لصحيفة «معاريف» بن كسبيت إن الاتجاه المحافظ في إسرائيل يميل إلى بقاء الوضع القائم مستقرا دون القفز إلى المجهول.
ويقول مراسل الشؤون العربية في الصحيفة جاكي حوكي: «إن دمشق أحد الأنظمة العربية المستقرة، واستقرارها في مصلحة أميركا وإسرائيل، ولكن من شأن حدوث انقلاب في نظام الحكم في دمشق جلب نظام حكم إسلامي، فسورية وإسرائيل الآن في موقف عداء، لكن عدو اليوم قد يصبح صديق الغد، ومن الأفضل أن يكون هناك طبيب عيون متقلب من أن يكون شيخ يعرف جيداً ماذا يريد».
من الواضح أن الصهاينة والأميركيين يريدون من نظام الحكم السوري أن تكون عيونه مفتوحة فقط كي يشاهد مدى قدرتهم على العبث بنظامه، وأنهم قادرون على أن يفعلوا به ما يشاؤون، فهم قادرون أيضاً على تحريك المعارضة السورية ودعمها كما حدث في العراق، ولكنهم مع ذلك لا يفعلون، ويريدون بقاءه واستقرار نظامه ولكن بشروطهم.
لذلك يبقى السؤال، والذي سوف ستتكفل الأيام بالإجابة عنه: هل تكتفي الحكومة السورية بهذا القدر من الصمت والتنديد، أم تضحي بقادة المقاومة الفلسطينية في صفقة كي يستقر نظامها، أم تستمر الحكومة السورية في المشاهدة أملاً في وصول إدارة أميركية جديدة تتم معها إعادة العلاقات بصورة أفضل؟ ولكن الأخطر أن يضجر ويمل الصهاينة والأميركيون من العبث واللعب العسكري في سورية من دون تغير في الموقف السوري، ومن ثم يندفع الأميركيون في مغامرة ساخنة، وليس مطاردة ساخنة، لتمكين نظام بديل في سورية على غرار ما حدث في العراق، وأفغانستان.
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب مصري
[email protected]