إدارة ترامب تدفع بالأمور إلى التدهْور المتدحْرج وتُغضب المعسكر الأوروبي
الاتفاق النووي الإيراني يقترب من «الموت السريري» بعد إرساء روحاني «قواعد اشتباك جديدة»
| كتب - ايليا ج. مغناير |
1 يناير 1970
07:05 ص
خامئني: إذا أعطيتَ أميركا إصبعاً طلبتْ اليد وإذا قبِلتَ باليد تطلب الذراع وإذا وافقْتَ على ذلك تطلب الجسد
لم تستطع الولايات المتحدة السماح لإيران بالانتصار على الساحتيْن السورية والعراقية حيث تتّجه الحرب الدائرة هناك الى الانتهاء عاجلاً أم آجلاً، إذ لم يعد هناك أيّ أفقٍ للجماعات المتطرّفة واندحر تنظيم «داعش» وانكمشتْ مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الى أقلّ من ربع ما كانت عليه العام 2014، فيما تنظيم «القاعدة» يحضّر نفسه لخيارٍ واضح في إدلب فإما يلحق مصيره بـ «داعش» وإما يحلّ نفسه ويرضخ للسيطرة التركية المطلقة.
ولم يعد أحدٌ يتحدّث عن مغادرة الرئيس السوري بشار الأسد السلطة أو تغيير النظام في سورية، بل رضخ الجميع في المنطقة وكذلك دول أوروبا وأميركا للسيطرة الروسية شبه المطلقة على بلاد الشام وانتصار حكومة العراق وذهاب مشروع تقسيم بلاد الرافدين إلى مزبلة التاريخ، لا سيما ان أكراد كردستان العراق قد يوقّعون على إلغاء أو تأجيل «الاستفتاء على الاستقلال» المقرر في 25 سبتمبر المقبل.
إذاً وبانتصار حكومة بغداد وحكومة دمشق وحليفة روسيا في سورية، وبانكسار المشروع «الداعشي» - التكفيري وتَعاظُم قدرات وخبرات وقوة «حزب الله» اللبناني في سورية وأكثر من جبهة، تكون إيران منتصرة وتخرج بخسائر مادية ولكن بنفوذٍ لم يعد بالإمكان تَجاهُله في خريطة الشرق الأوسط كلها من دون استثناء.
إلا أن هذه النتيجة - على الرغم من احتلال أميركا لبقعة جغرافية في الشمال الشرقي السوري وعدم وجود أفق استراتيجي لهذا التواجد العسكري مع قوات أكراد سورية - لم ولن تروق لأميركا ولا لحلفائها في الشرق الاوسط. فكان لا بد من قلْب الطاولة على جميع موقّعي الاتفاق النووي - بمَن فيهم حلفاء واشنطن في القارة الأوروبية العجوز - واتّهام طهران بأنها «تخرق روح الاتفاق» لتفرض واشنطن عقوبات اقتصادية على إيران تحت عناوين مختلفة قابِلة للتصعيد.
إلا أن أوروبا لن تقبل بأن تقف مكتوفة خصوصاً أن اقتصادها الذي ينوء تحت ثقلٍ كبير يتألّم وهي ترى في السوق الإيرانية الكبيرة والمتعطشة (لا سيما في مجال استخراج النفط ومشتقّاته والطيران والتكنولوجيا والبتروكيماويات والسيارات وغيرها) أملاً كبيراً لاستنهاض الاقتصاد. وكذلك فقد وقّعت أوروبا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) الاتفاق النووي وهي تراقب وراضيةٌ عن تنفيذه من طهران وتجاهر بذلك، ولا ترى سبباً لأيّ تدابير أميركية تهدف لنسف الاتفاق مباشرة او بطريقة غير مباشرة عبر فرْض عقوبات مالية ومصرفية تكبّل عجلة إيران الاقتصادية وتحويلاتها الى الخارج التي تسيطر عليها واشنطن.
وهذا ما دفع بالرئيس حسن روحاني - وهو المعروف بقيادة ما يعبّر عنه الغرب بجبهة «الحمائم مقابل المتشدّدين» - الى التهديد بوقف الاتفاق وإعادة النشاط النووي العسكري خلال «ساعات»، كما قال، إذا فَقَد هذا الاتفاق روحه وتفاصيله الاقتصادية والمالية. وبالتالي فقد نجح ترامب - حيث فشل معسكر المرشد الأعلى علي خامنئي - بتحويل الرئيس روحاني الى «معسكر الصقور» لينحني أمام خامنئي ويعطيه كل الحق في ما كان يردّده دائماً من أن «أميركا لا ولن نثق بها أبداً».
وقال خامئني لزواره وبعيداً عن الإعلام «ان أميركا تريد أن تأخذ دائماً: فإذا أعطيتَها إصبعاً واحداً طلبتْ اليد، وإذا قبِلتَ باليد تطلب الذراع، وإذا وافقْتَ على ذلك تطلب الجسد، وإذا انصعتَ لطلباتها تنقلب عليك لأن الأمان مفقود عندها ولا عهود تلتزم بها أبداً».
إلا أن روحاني استطاع إقناع خامنئي بالمحاولة، بعدما كانت وصلتْ الرسالة من عُمان وخلال رئاسة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بأن الإدارة الأميركية جدية في طلب التفاوض بشأن الملف النووي. وأعطى مرشد الثورة أوامره بالسماح بالمفاوضات بشرْط ألا تتعدى هذا الملف. وحصل «الاتفاق التاريخي» (بنظر الرئيس باراك أوباما) ليشنّ الرئيس دونالد ترامب الحرب عليه منذ ما قبل توليه الرئاسة وفي اليوم الأول لجلوسه على عرش الولايات المتحدة.
وهناك انقسام واضح بين الموقفيْن الأميركي والأوروبي حول الاتفاق النووي مع إيران. وهذا الصراع نابع من مبدأين:
أولاً: إن أوروبا تعتمد سياسة التزام القانون وليس التحايل عليه. والمجموعة الاوروبية وقّعت الاتفاق النووي بعدما اطمأنت إليه وتالياً هي لا تستسيغ التلاعب الأميركي الرامي لاستحضار «روح الاتفاق» من دون الإتيان بأي دليل ملموس، رغم أن كل الدلائل تشير الى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تتحضّر لفبْركة دلائل تقدّمها للكونغرس الأميركي في أكتوبر المقبل ربما على طريقة «اختراع» ملف «أسلحة الدمار الشامل» في العراق لتبرير اجتياحه، وذلك لتعطي «عذراً» لترامب لفرْض عقوبات إضافية على إيران لنسْف الاتفاق بشكل غير مباشر.
ثانياً: إن أوروبا تعي أن السبب الرئيسي لموقف ترامب من الاتفاق النووي هو أولاً مادي وثانياً أمني. فمن الناحية المادية، لا يريد الإفراج عن الأرصدة الإيرانية كي لا تنفقها طهران على الشركات غير الأميركية (أوروبية - روسية وآسيوية) وهو يصارع أوروبا على العقود، والقارة الأوروبية تعلم ذلك. كما أن ترامب يستخدم ورقة إيران لابتزاز دول الشرق الأوسط ليفرض على هؤلاء إنفاق المال عليه (أميركا) على قاعدة أنه يقف في الصف الأول ضد «عدوّهم اللدود إيران».
أما من الناحية الأمنية، فترامب يريد الدفاع عن إسرائيل وحماية مصالحها بفرْض عقوباتٍ على إيران التي أصبحتْ قوية على حدود اسرائيل في سورية (وفي لبنان) من خلال حلفائها. ولذلك فإن هذا «الانتصار الإيراني» لا يمكن لطهران أن تحتفل به من دون عقوبات تقلقها أو تعيدها إلى المواجهة الديبلوماسية - الاقتصادية. وأوروبا لا تريد أن تكون ضمن لعبة ترامب لأن من نتائجها ضرب المصالح الأوروبية، لا سيما أن إيران لم تخرق الاتفاق النووي، وأن البرنامج البالستي لم يدخل أبداً ضمن الاتفاق النووي مع الخمسة أعضاء الدائمين في الأمم المتحدة زائد واحد (ألمانيا).
وأبلغتْ مصادر مسؤولة الى «الراي» أن طهران لن تخرق الاتفاق إلا اذا استمرّ مسلسل العقوبات الأميركية ليصل الى حد خطير يفقد معه الاتفاق أسبابه وجوهره وتفاصيله. إلا ان الانسحاب أصبح خياراً مطروحاً وتهديد روحاني ليس مناورةً بل تهديد جدّي، خصوصاً ان الفريق المحيط بترامب يضمر العداء الشديد لإيران ويُقنِع الرئيس الذي يفتقد للقرار السياسي - الديبلوماسي بأيّ شيء.
ويأتي تصريح روحاني ليضع «قواعد اشتباك جديدة» وينضمّ الى الموقف الأوروبي الذي يرى ان قرارات الولايات المتحدة تخطّتْ الحدود ولا تراعي مصالح حلفائها، وان العدائية الأميركية تجاه طهران غير مبرَّرة، وان قرار العقوبات الذي وقّعه ترامب (ضدّ 18 فرداً وكياناً ايرانياً) مخالِفٌ وانتهاكٌ صارخٌ للقانون.
ومن الواضح ان إيران أزعجتْ «نادي الدول الفضائية» بإرسال قمر اصطناعي الى الفضاء والكشف عن صواريخ تَعْبر القارات. إلا ان هذه التدابير الإيرانية هي دفاعية لأنها لم تهاجم دولاً في الشرق الأوسط منذ إعلان الجمهورية الإسلامية العام 1979 على الرغم من ميزانيات التسليح الشرق أوسطية التي تخطت عشرات المليارات تحت عنوان «الخطر الإيراني». وقد أعلنتْ طهران عن ميزانية «الحرس الثوري» للبرنامج الصاروخي بقيمة 500 مليون دولار كرسالةٍ للعالم بأنها ليست ضعيفة وأن مهاجمتها بالمباشر ستكلّف الجميع خسائر يبقى العالم العربي وأميركا بغنى عنها.
ومن الواضح أن ما اعتبرتْه الأمم المتحدة من أهمّ إنجازاتها التاريخية يقترب من «الموت السريري» وإعلان الوفاة في الأشهر المقبلة إذا استمرّ ترامب بإضافة العقوبات، خصوصاً أن إيران أعلنت أنها جدّية بالردّ على انتهاك الاتفاق. ومن الواضح أيضاً ان الملف النووي سيكون الباب الأول منذ الحرب العالمية الثانية الذي سيضع مسماراً في نعش العلاقات الأميركية - الاوروبية، لأن أوروبا لا تريد تحمُّل فاتورة الولايات المتحدة وموقفها الأحادي من الاتفاق الذي يحترمه الجميع ما عدا ترامب وإدارته. ومن الطبيعي ألا تقبل أميركا بخسارتها في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين لمصلحة إيران، ولذلك فإن الادارة «الترامبية» ستدفع بالأمور الى التدهْور المتدحْرج.
إلا أن العقوبات لم تشمل إيران فقط بل أيضاً موسكو وخصوصاً خطها الغازي الذي يغذي أوروبا، وهذا أحد الأسباب التي دفعتْ بالكرملين الى الحرب في سورية والتدخل في أوكرانيا لأن الاقتصاد الروسي يعتمد عليه. فإذا طبّقت أميركا العقوبات، فإنها ستضرب روسيا وإيران - الحليفتين في سورية - اللتين يدفعهما ترامب كل يوم الى أحضان بعضهما البعض. وهكذا لن ينتهي مسلسل نتائج الحرب السورية على العالم بأكمله على الرغم من اقتراب نهاية الحرب في بلاد الشام.