الإخلاص لله

1 يناير 1970 01:48 ص
إن الإخلاص لله عزّ وجلّ سرّ بين العبد وربه ومن أعظم وألزم القربات إليه، فلا خير من عمل أو جهد إذا خلا من الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فالله غني عن الشركة ولا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه، وللإخلاص آثار جليلة جداً ذكرتها الروايات بالتفصيل، يقول رسول الله (ص): «ما أخلص عبد أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»، وتلك القلوب المخلصة تصبح مواضع لنظر الله تعالى، يقول الإمام عليّ (ع): «أين الذين أخلصوا أعمالهم لله، وطهروا قلوبهم لمواضع نظر الله».

والإخلاص لله عزَّ وجلَّ هو تجريد العمل وتصفيته عن كل شائبة وقصد القربة إليه وحده دون قصد شيء آخر، وقال بعض أرباب هذا الفن أن الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين!! وقال بعض أصحاب القلوب أن الإخلاص إخراج الخلق عن معاملة الحق.

ودرجة الإخلاص عظيمة المقدار رفيعة المعنى صعبة المرتقى إلا لمن اجتهد فيها مجاهدة تامة، فقد قال النبي المصطفى(ص) مخبراً عن جبريل(ع) عن الله عزَّ وجلَّ: «الإخْلاصُ سِرٌّ مِنْ أسْراري اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أحْبَبْتُ مِنْ عِبادي!!».

ومقامات الإخلاص ثلاثة: الإخلاص في التوحيد، الإخلاص في الأحوال والإخلاص في الأفعال وأما المقام الأول: الإخلاص في التوحيد، فللتوحيد أقسام أربعة: التوحيد الذاتي، التوحيد الصفاتي، التوحيد الأفعالي والتوحيد العبادي.

فالتوحيد الذاتي هو الاعتقاد بأن الله لا شريك له ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل والذات الإلهية تكون بحيث لا تقبل التعدد والتكثر، والتوحيد الصفاتي هو الاعتقاد أن صفاته عين ذاته، والتوحيد الأفعالي هو التوحيد في أفعال الله وأنه لا مؤثر في الوجود إلا هو وأنه مبدأ كل وجود وفعل، والتوحيد العبادي إفراد خالق الكون بالعبادة وهو الأصل المشترك في جميع الشرائع السماوية.

المقام الثاني: الإخلاص في الأحوال، وهو أن يكون في كل الأحوال مخلصا لله سبحانه وتعالى.

والمقام الثالث: الإخلاص في الأفعال، والفعل ينتج بعد الحال، وقبول كل فعل وعمل يحتاج إلى النية الخالصة وقصد وجه الله عزَّ وجلَّ وحده.

وآفة الإخلاص في الأحوال والأفعال هي مطلق الدعوى دعوى العلم، دعوى الكرم، دعوى السخاء، دعوى الفقه، دعوى الأصول... إلخ والناتجة كلها عن حب النفس واتباع أهوائها الباطلة وملذاتها الكاذبة، فإذا وجد الإنسان يوماً في نفسه وضميره مقدمات الدعوى وقال أنا الكاتب، أنا القائل، أنا العارف، أنا الفقيه، أنا...، أنا... وأي أنانية من هذا القبيل تلك هي الدعوى، وتنكشف هذه الآفة الباطنية المهلكة والمستقرة في سر القلب عند ظهور أحد من الأقران أكثر علما منه وأحسن حالا بحيث يصرف الناس عنه فيشق عليه ذلك، فما هو العلاج؟!

إذا عرفت أن آفة الإخلاص في الأحوال هي مطلق الدعوى فعلاجها إخراج دافع النفس من الأحـوال، وبما أن آفـة الإخلاص في الأفعـال هي مطلق الدعوى فعلاجها إخراج رضـا الخلق مـن الأفعال.

وهنا لفتة عرفانية دقيقة وهي أن الأحوال تموجات نفسية باطنية وليست لها مظاهر خارجية وعينية وأما الأفعال فلها مظاهر خارجية وعينية، ولذا يذكر العرفاء كلمة «النفس» في علاج آفة الإخلاص في الأحوال ويذكرون كلمة «الخلق» في علاج آفة الإخلاص في الأفعال.

إذا أردت أن تفعل شيئا فهذا الفعل إما أن يكون للخلق أو الخالق، والإخلاص للخالق هو إخراج الخلق عن كل قصد وعمل، والإخراج يحتاج إلى فاعل والفاعل هو أنت أيها السالك، فإخراج رضا الخلق لا يتحقق إلا إذا كنت تريد ذلك.

قد يعتاد الإنسان أحيانا على القيام ببعض الأعمال العبادية الشاقة كالتيقظ من النوم في الشتاء البارد لأداء صلاة الليل أو صوم شهر رمضان في الصيف الحار والنهار الطويل أو الذهاب إلى الحج كل عام في حين أنه إذا طلب منه إنسان ماء استثقل ذلك وأبدى بعض الضجر والكسل!! فهل كانت تلك العبادات إلا عادة تخلو من الإخلاص وحقيقة القربة إلى الله تعالى!!

قال الله سبحانه وتعالى: ? فَمَن كانَ يَرْجو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً?(الكهف: آية 110) أي لا يشوبه فساد، ثم يقول: ? وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَداً ? أي لا يذل نفسه إلا لله تعالى، وهنا نتوقف عند كلمة «ولا يُشركْ»، فنحن بين خطين، بين الخلق والخالق، فإذا أخرجنا من أنفسنا رضا الخلق فلا يبقى أمامنا طريق إلا رضا الخالق، وعلى هذا فعدم الشرك بالله هو الإخلاص له.

حينما تبني مسجدا هل كان بناء المسجد لنفسك واسمك أم لله؟!!، هل كان وَقفا باسمك أم لمطلق الخيرات؟!!.

فإذا ما عملت لرضا الناس وكلام الناس بل كان عملك خالصا لوجه الله وحده ورجاؤك لقاء الله سبحانه وتعالى هنالك يمكنك أن تقول بكل وجودك: ? قُلْ إنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ ?!!( الأنعام: 162).

وللإخلاص لله تعالى آثار كثيرة على دنيا الإنسان وآخرته ومن آثار الإخلاص:

أ - الحكمة: فعن رسول الله (ص): «ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحا إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

ب- قبول الأعمال: إن من آثار الإخلاص لله تعالى أن يقبل الله تعالى أعمال الإنسان المؤمن، فعن الإمام علي (ع): «المخلص حري بالإجابة»، وفي رواية عنه (ع): «بالإخلاص ترفع الأعمال»، وفي رواية أخرى عنه (ع): «لو خلصت النيات لزكت الأعمال».

ج - الكفاية والخلاص: والخلاص هو غاية المؤمن، سواء كان الخلاص من بليّات الدنيا، أو من عذاب الآخرة ففي الرواية عن أمير المؤمنين (ع): «غاية الإخلاص الخلاص».

وعن الإمام زين العابدين (ع): «فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة».

اللَّهم لك قلبي ولساني وبك نجاتي وأماني وأنت العالم بسري وإعلاني فأمِت قلبي عن البغضاء وأصمت لساني عن الفحشاء وأخلص سريرتي عن علائق الأهواء واكفني بأمانك عن عوائق الضراء واجعل سري معقودا على مراقبتك وإعلاني موافقا لطاعتك وهب لي يقينا صادقا في حبك وهمة متصلة بك إنك ولي الحمد والمستولي على المجد برحمتك يا أرحم الراحمين.

* الامين العام للهيئة العالمية للفقه الإسلامي