أنور أحمد راشد الفزيع / «قانون الأحزاب»... يخربون بيوتهم بأيديهم

1 يناير 1970 06:17 ص
طالعتنا الصحف الصادرة يوم الجمعة الموافق 30/10/2008 بنبذة عن اقتراح بقانون تقدم به مجموعة من أعضاء مجلس الأمة الأفاضل، ويدعو هذا الاقتراح بقانون الى تنظيم العمل الحزبي في الكويت، مبينا شروط ترخيص الاحزاب ونظام عملها والتزاماتها وتمويلها وتجريم بعض السلوكيات المخالفة لأهداف القانون.
ولا ريب ان الاعضاء الأفاضل اجتهدوا برأيهم للارتقاء بالعمل السياسي في الكويت من خلال تطوير آلياته والنأي بالسلطة التشريعية عن استخدام أدواتها في غير المصلحة العامة والسعي لأن تضع الأحزاب السياسية برامج عملها لتحاسب على أساسه.
والسؤال الذي ينبغي الاجابة عنه قبل مناقشة هذا الاقتراح بقانون هو مدى ملاءمة فكرة الأحزاب مع طبيعة مجتمعنا وليس مدى صلاحية هذه الفكرة في الأنظمة الديموقراطية المقارنة، ذلك ان العمل السياسي في أعرق الديموقراطيات سواء في أوروبا أو أميركا أو بعض دول آسيا يعتمد كلية على تنظيم النشاط الحزبي الذي هو عصب الحياة السياسية فيها، ولا يتصور امكان استمرار الديموقراطية فيها من دون ذلك.
بيد ان نجاح العمل الحزبي في الدول الديموقراطية نتاج تطور تاريخي طويل مرت به لا يمكن اختزاله او التقليل من شأنه، والناس في تلك البلاد يتمتعون بوعي سياسي متميز يعتبر الضمانة الاساسية لاستمرار الديموقراطية وتأكيد حقوق الانسان، ثم ان الحروب العرقية والدينية أدت الى فصل الدين عن الدولة وانصهار الناس في بوتقة واحدة واصبح المبدأ السائد هو «ما لقيصر لقصير وما لله فهو لله»، وعليه فان القيمة العليا في تلك البلاد الانتماء للدولة والاعتزاز بذلك والعمل على الارتقاء بها، ولا توجد لديهم قيمة اجتماعية مشتركة أكبر من هذه القيمة. ومن هنا فان مجال التنافس هو السعي الى ترسيخ قيم الديموقراطية من العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وحق الانسان في التعبير عن رأيه وحقه في الاعتقاد وحقه في الرعاية الاجتماعية وغيرها.
وتنافس الاحزاب في ما بينها لتحقيق أكبر معدل من التنمية الاقتصادية وتحقيق أعلى درجة من الرفاهية للمواطن محترمة مبادئ الديموقراطية.
هذه ا لصورة المتقدمة للعمل السياسي في العالم المتطور لا يمكن ان تنقل كما هي الى مجتمعنا لاعتبارات كثيرة، أولها أن الدين في بلدنا مترسخ في ضمير الانسان الى درجة كبيرة ويشعر في كثير من الأحيان بأن انتماءه الديني أو المذهبي أسمى من انتمائه الوطني وكما لا توجد أي درجة من التسامح بين المنتمين الى المذاهب المختلفة، بل ان الاختلاف يدب بين أصحاب المذهب الواحد على مسجد او فكرة معينة او مشروع معين، والعمل الحزبي سيعطي مشروعية لهذه التيارات الدينية التي ستجد نفسها منقسمة على نفسها الحزب تلو الآخر، وكل منها يطعن في الآخر. وثانيها انه لو نقلنا انفسنا من المشهد الديني الى المشهد القبلي، فسنجد ان القبيلة السياسية اصبحت متجذرة في العمل السياسي الكويتي لانه تمت تغذيتها في السابق الى تطورات وأصبحت عبئا على كل من ساهم في تطويرها وأصبح من الصعوبة بمكان تحجيمها او تشذيبها، هذه الكيانات القبلية صارت في الوقت الراهن من أهم الكيانات السياسية التي ستستخدم العمل الحزبي كقناع جديد لممارسة العمل السياسي تحت مسميات جديدة تظهر قيما سامية وتبطن تعصبا قبليا مقيتا سيؤدي بدوره الى ظهور المزيد من الأحزاب القبلية لفئات اجتماعية تجد نفسها مضطهدة داخل القبيلة الواحدة اما بسبب قلة عددها واما بسبب توارث الامارة في غيرها من مكونات القبيلة.
واذا أضفنا الى ما سبق غياب الوعي السياسي واعتبار العمل البرلماني أداة لتحقيق المزيد من المغانم والمكاسب، فان العمل الحزبي سيكون وبالا على الكويت لانه سيتم الافصاح عن الصراع الاجتماعي الديني العرقي من خلال الاحزاب التي تمثله وسيكون أكثر حدة وفتكا في جسد الامة وتمزيقها.
فاذا مازلنا الى هذا اليوم نعاني من بعض أعضاء مجلس الامة الذين يعتقدون بدستورية الانتخابات الفرعية والدعوة الى عدم تجريمها، فان العمل الحزبي سيكون تقنينا وتأصيلا للطائفية والقبلية من خلال استخدام آليات حديثة في العمل السياسي.
وليسمح لي الاعضاء الأفاضل الذين تقدموا بالاقتراح القول إن بعض أعضاء مجلس الأمة يستغلون الادوات الدستورية لغير مبتغاها، فالسؤال يستخدم للتشهير والهمز واللمز والاستجواب انجح طريقة للابتزاز السياسي، ثم تحقيق مكاسب خاصة وضيقة لا تعود على الامة باي نفع، فهل هؤلاء الاعضاء سوف يغيرون من سلوكهم إذا انخرطوا في العمل الحزبي ام سيكونون اكثر شراسة، لان احزابهم لا تقوم على اساس وطني وانما تقوم على اساس ديني او قبلي، وبالتالي لا يهمه ما يقول الاخرون في ما يقدمه من اسئلة او استجوابات، وانما المهم له سيكون هو تحقيق المزيد من المصالح الخاصة للمنتمين إلى هذا الحزب، مهدرين مصالح الوطن العليا؟
وهل يعتقد السادة الاعضاء الذين تفضلوا بالاقتراح ان حوارا وطنيا على مستوى عالٍ سوف يجري بين الاحزاب المقترحة، ام سيكون حوارا عقيما لا يبتغي مصلحة الوطن وانما النيل من الاحزاب الاخرى وكسر عظمها والتصيد لها بالماء المعكر من دون النظر إلى اي قيم عليا شعارهم وفي ذلك قول الشاعر:
وهل انا الا من غزية ان غوت
غويت وان ترشد غزية ارشد
هل تتوقعون حوارا تكامليا يهدف إلى تعزيز مكانة الكويت في الخارج وتأكيد سيادتها وتسخير الظروف كلها لضمان افضل مستقبل لابنائها، كالذي جرى بين جاك شيراك وميشل روكار عقب فوز الاول في الانتخابات الرئاسية لعام 1995، إذ اتخذ مجموعة من القرارات غير الشعبية الهادفة الي تعزيز مكانة فرنسا في العالم وتحسين اوضاعها الاقتصادية إذ امر - من ضمن سلسلة طويلة من القرارات - بالاستمرار في التجارب النووية ضد رغبة حماة البيئة، كما امر بتعديل نظام الضمان الاجتماعي والغاء بعض المزايا المقرة لبعض العمال كسائقي القطارات وغيرهم لتقليل العجز الحاصل في مؤسسة الضمان الاجتماعي، ولكون هذه المزايا فقدت مبررها في الوقت الراهن، فكان ينبغي في مثل هذه الظروف ان يتأثر الخاسر في الانتخابات الرئاسية ميشل روكار ويطعن في قرارات الفائز جاك شيراك، لكن ما حصل كان العكس، إذ نشر ميشل روكار مقالا مطولا في الصفحة الاولى من صحيفة «لوموند» عنوانه بما يلي: «لهذه الاسباب ادعم قرارات الرئيس» وهي الاسباب ذاتها التي قدمها جاك شيراك عندما اصدر قراراته غير الشعبية.
بالله عليكم هل نتوقع سلوكا حضاريا عندنا بمثل هذا المستوى يتسامى الانسان على جراحه ورغباته في الثأر انتصارا لمصلحة الوطن العليا، ام سيكون الشأن عندنا هو قرع طبول الحرب واستنفار الاتباع والنفخ في النار؟
اعتقد أننا نحتاج وقتا طويلا لامكان اقرار قانون الاحزاب، وهي مسألة رهينة بالنضج الاجتماعي والوعي السياسي للكويتيين بفئاتهم كلها وترسيخ مجموعة من القيم السياسية الغائبة عن واقعنا والتي من اهمها ان الانتماء لهذا الوطن اعلى قيمة سياسية يجب الدفاع عنها قبل اي قيم حزبية ضيقة تدور في اطار الطائفية او القبلية او الطبقية، وهذا يحتاج وقتا طويلا لتطوير العقلية الكويتية وزيادة الوعي السياسي لدى فئات المجتمع كافة من شباب وشيوخ ونساء ورجال.
والواقع أننا نعيش اليوم في ردة سياسية. بالامس كانت الانتخابات الفرعية تحصل في اطار الانتخابات التشريعية، اما اليوم فانها انتشر كالسرطان في الجسم، حتى وصلت إلى الانتخابات الطلابية في الجامعات والمعاهد، وبالامس كنا نشاهد قوائم انتخابية تنتمي إلى مذاهب مختلفة او طبقات اجتماعية مختلفة، اما اليوم فأصبحت الطائفية والطبقية سمة رئيسية في الانتخابات، بل الانكى من ذلك وجود صراع بين اصحاب المذهب الواحد.
أنني اشبه اقرار قانون الاحزاب كمن يعطي طفلا سكينا ليستخدمها في قضاء حوائجه من اكل وغيره، ولكن لا يدري بان هذا الطفل قد يقتل نفسه بهذه السكين من دون ادراك لمخاطرها.
ما اريد ان اقوله باختصار ان فكرة الاحزاب هي فكرة اساسية في الديموقراطيات الغربية التي فصلت الدين عن الدولة، وتناسى الناس منذ زمن بعيد اصولهم العرقية، ولا تصلح هذه الفكرة لنا واننا ما فتننا نؤصل الانتماء الطائفي والقبلي والطبقي يوما بعد يوما، بل ونزرعه في نفوس ابنائنا منذ الصغر، انها ردة سياسية ما بعدها ردة. فهل في مثل هذه الظروف ندعو إلى تنظيم الاحزاب.
ومن هذا المنبر فانني ادعو المخلصين كافة من الغالبية الصامتة والحالمين بوطن آمن لابنائهم ومستقبل زاهر لاحفادهم ان يقفوا في وجه هذا الاقتراح بقانون. وذلك لان الاسلاميين (اخوان وسلف وشيعة) والقبليين، ومن باب اولى الليبراليون والقوميون، سيقفون معه، لانه يحقق لهم المزيد من المكاسب، ولكن الامل معقود على البقية الباقية من اصحاب العقول النيّرة وثقتنا بولاة امورنا اكبر لان اقرار هذا القانون يعني تقوية شوكة الغوغاء والفوضويين من الفئات الاجتماعية كلها، وستكون لهم اليد الطولى في ادارة البلاد والتسلط على مصالح العباد وعندها نكون محلا لقول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة لهم إذا جهالهم سادوا
أنور أحمد راشد الفزيع
استاذ القانون المدني جامعة الكويت ونائب رئيس لجنة الخبراء القانونيين في منظمة العدل الدولية