د. سامي ناصر خليفة / الخُمس في أيدٍ أمينة يا القصار!

1 يناير 1970 07:34 ص
الزميل الكاتب عادل القصار من الشخصيات التي أعتز بأخوتها وصداقتها أولاً، وأكن له كل الاحترام والتقدير ثانياً كونه من الكتاب الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية توعية المجتمع وكرسوا قلمهم دفاعاً عن الشريعة ودعاتها، وهو بالتأكيد ثقل عظيم وله ثمن باهظ في زمننا هذا. وقد خسرت الزميلة «القبس» وقراؤها الكرام، وأنا أحدهم، كتابات القصار فترة حين اضطر إلى مغادرة الكويت في رحلة علاج قطفت أكثر من عام من وقته، فغاب وغاب قلمه. وأما اليوم، وهو يعود للكتابة في النهج والاتجاه نفسيهما، فإنه بحق مدعاة للراحة والسرور لأنه سيزيد سواد الدعاة إلى التوعية والاستنارة في صحافتنا المحلية التي تعج هذه الأيام بأشباه الكتاب، وللأسف الشديد.
احتجت لكتابة هذه المقدمة لأوازن بها ثقلاً آخر في زاوية أخرى من الحديث أردت تسليط الضوء عليه اليوم في مقالي هذا، وهو ما ذهب إليه الكاتب عادل القصار من نقد لاذع وفتحه النار على المداخيل الشرعية المستحقة على المسلمين، كالخمس عند الشيعة، وتشكيكه في آليات تسلمها وصرفها، مستشهداً بعريضة وُقّعت من قبل مواطنين سعوديين شيعة يطالبون بمعرفة أين تذهب أموالهم التي تعطى لوكلاء المراجع! ولمعرفتي بحسن سريرة الكاتب العزيز بوعادل، فلست هنا في صدد التشكيك في نواياه ومبتغياته ومقاصده من النقد بتاتاً، بل أردت التأكيد على ملاحظتين في المنهجية التي اتبعها الكاتب من جانب، وفي اختياره لعموده في الصحيفة موقعاً لهذا النقد، وهو يعلم قبل غيره حساسية المجتمع من طرح هذه المواضيع بتلك الصورة التي تتناقض وقول رسولنا الأكرم: «اجتنبوا مواضع الشبه». وسأختصر ملاحظاتي على ما كتبه القصار في أمرين هما:
الأول: من أقوى نقاط القوة عند الشيعة، ومن أهم أسرار الترابط والتماسك الاجتماعي بينهم، آلية التكافل المالي التي تقودها المؤسسة المرجعية والعلمائية في الحوزات العلمية، فهي العنوان الأبرز الضامن للاستقلالية، وهي المقومة الأجدى الحافظة لعدم اضطرار العلماء إلى طرق أبواب الملوك أو الانقياد لهم بحجة الحاجة، وهم الموقع الأكثر أماناً عند العامة من الناس لإدارة هذا النوع من التكافل وإن توسع ليشمل دائرة الأمة بأسرها. وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يستهدف أعداء الشيعة ضربهم في نقطة قوتهم بأي عناوين كانت، وأحسب أن الزميل عادل ليس من هؤلاء بالتأكيد، بل هو من المحبين للوحدة والتآخي بين المسلمين، كما عهدته في الكثير من اللقاءات الخاصة معه.
لذا أجد من المهم اليوم أن نقرأ مقاله في إطار حسن النية به، وهو من واجب المؤمن على أخيه المؤمن، وعلينا عدم وضع مقاله كحلقة ضمن سلسلة استهداف الشيعة هذه الأيام بالتحديد. ولكن كم كنت أتمنى لو طرق القصار باب العلماء والجهات المعنية بالأمر بدلاً من اختياره للصحافة، التزاماً بما جاء بالأثر: «ليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما قيل حضر أهله وليس كل ما حضر أهله آن أوانه». ولحساسية هذه المسائل كنت أعوّل على وعي القصار وحصافته، خصوصاً أنه يتمتع بعلاقات واسعة مع شخصيات نشطة منتمين إلى فكر التشيع في الكويت وكان بإمكانه أن تكون خطوته الأولى نحوهم لفك لغز «الغموض» و«الصمت»، كما جاء في مقاله!
الثاني: أقر أنا شخصياً بأن الآليات المتبعة في تحصيل الخمس قديمة تتطلب التجديد لتلائم طبيعة التطور الفطري في المجتمعات. ولكن من يواكب طبيعة التطور الآلي في مؤسساتنا الدينية التي تميل إلى البطء الشديد يمكن له أن يبرر الأمر، وكون أن يذهب الكاتب القصار إلى تشخيص الآليات ونعتها بالتخلف، فهذا لا يعني أن المعالجة يجب أن تكون بالتمرد عليها والعمل بشعور أو بغيره إلى المساهمة في هدمها، ولا يعني أيضاً أن نخطئ التشخيص فننال من ثقتنا بالمؤسسة العلمية والعلمائية، فهم صمام الأمان اليوم وحجة الله علينا ويكفي أن تبحث أخي القصار عن منزلة العلماء عند الله ودورهم في ريادة الأمة كي تعي أهمية دورهم في زوايا حياتنا كلها، بما فيها متطلباتنا المعيشية وعلى رأسها الأخماس والتبرعات وآليات التكافل الاجتماعي الأخرى.
وأن يلمس بعض الشيعة تغيرات معيشية طارئة تميّز بها بعض أنفار شاذين من وكلاء المراجع، وهو أمر طبيعي فلا معصوم عن الخطأ بيننا، فهذا يعود سوؤه على من ضعفت نفسه، ولا يعني أن السواد الأعظم من وكلاء المراجع ومن تثق المرجعيات الدينية بأمانتهم في هذا الاتجاه. وإن كانت الآليات المتبعة في تحصيل الخمس بطيئة وتحتاج إلى تغيير فهذا لا يعني بتاتاً أن تكون مدخلاً لاتهام مراجع الأمة وكبار أعلامها من فطاحل العلماء ممن يثق بهم سواد الناس اليوم، بل أحسب أنه يمكن الإقرار بأنه مهما زل وكيل من الوكلاء لأمر في نفسه فإن انتهاء آليات التحصيل والصرف بالنهاية بيد مراجع الأمة هي بمثابة صمام الأمان التي ترفع التكليف عن عموم الناس من جانب، وتمثل الراحة والأمان في أن الأموال باتت في أيدٍ أمينة من جانب آخر، خصوصاً أن علماء الأمة حريصون على أن يعي المكلف بدفع الخمس أهمية أن تتوافر حال ارتياح وثقة من الجانبين بالوكيل المعتمد للتحصيل وليس من طرف المرجعية الدينية فقط. بل أكثر من ذلك حين يشترط المرجع الديني تسلم المكلف بالدفع وصل ائتمان خطي من الوكيل المعتمد بما دفعه، وفي حال تقاعس المكلف بالدفع عن ذلك فإنه هو وحده يتحمل مسؤولية أي استغلال سلبي للحقوق الشرعية المدفوعة.
أما عن استثمار آليات صرف الخمس في توجيهها إلى الداخل أم الخارج، فهو أمر يحتاج إلى بحث مطول لا يسعه مقال هنا ورأي هناك، فالأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منها عضو تداعت لها سائر الأعضاء بالسهر والحمّى، ويبدو أن الاستعمار الذي فكك الأمة في عقود مضت إلى دول ودويلات حريص كل الحرص اليوم على أن تنحصر مؤسسات التكافل الاجتماعي، التي يرعاها العلماء، لتكون مقيدة الصلاحيات في أطرها القطرية وحدودها السياسية فقط، وأحسب أنه الخطأ الذي وقع به الكاتب القصار من دون أن يشعر، وهذا لا يعني ألا يكون المكلف بدفع الخمس يرى بأولوية أهله ومجتمعه بها من باب «الأقربون أولى بالمعروف»، ولكن الحكمة من وجود بيت المال في الإسلام ضمان عدم وقوع المرء في الحرام نتيجة لعدم قدرته الوصول إلى السقف المعيشي المجزي أو المبرئ للذمة، وإلا فما الحكمة من جهود الأخوة الأفاضل الذين يجولون قرى أفريقيا وغيرها لإنقاذ الذين سقطوا في فخ الفقر المدقع لتقليل عدد من يموت جوعاً هذه الأيام؟
أما العريضة التي وقعها بعض الأخوة الشيعة في السعودية، والتي تطالب بالشفافية، فهذا أمر مقبول ومستحسن وهو رافد يدل على وعي الأمة في التعاطي مع قضاياها المهمة، ولكن لا تعني العريضة أبداً الانتقاص من أهمية هذه الآليات سوى الدفع باتجاه ترشيدها، وكم كنت أتمنى على الكاتب القصار ألا يعول على عريضة مختصة في جانب شرعي وتستهدف لفت نظر المرجعيات إلى ضرورة تطويرها ليلتجئ إلى الصحافة المحلية، وهو يعرف قبل غيره من الناس أنها ليست المكان النقي والصافي الذي يمكن معالجة أمر بهذه الحساسية، مع ملاحظة أن الشيعة اليوم من الشفافية التي تعج أسئلتهم واستفساراتهم وعرائضهم وشكاواهم واعتراضاتهم ونقدهم على الكثير من الأمور وتتلقاها المرجعية بصدر رحب في ظل حملة تعاط ذهني وتفاهم رائع بين العلماء والعامة من الناس لم تشهد له الساحة الإسلامية مثيلاً منذ قرون، فلماذا اختيار تلك العريضة فقط، ولماذا اختيار صحافتنا المحلية موقعاً لطرحها؟
د. سامي ناصر خليفة
أكاديمي كويتي
[email protected]