| د. أنيسة فخرو |
تمر أمام عيني حالات عديدة من الذين عانوا أو يعانون من مرض الاكتئاب، ويعتبر الاكتئاب ثاني أخطر الأمراض النفسية وأكثرها انتشاراً في العالم، وهو حالة معقدة من المشاعر السلبية، كالقلق والتشاؤم والشعور بالذنب، وانعدام أي هدف من الحياة، ما يجعل الفرد يغترب عن واقعه، ويفقد الأمل ويتمنى الموت. ومن الأعراض التي تصيب مريض الاكتئاب: فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل، الأرق أو النوم المفرط، ونوبات من البكاء والعصبية والضجر، وصداع وآلام في العظام، وحساسية مفرطة، ونقص في الرغبة الجنسية، خمول وفقدان الطاقة، والإحساس بالدونية والرغبة في الانعزال والصمت، وأفكار انتحارية ومحاولة الانتحار.
وأسباب الاكتئاب كثيرة، منها ذاتي ومنها موضوعي، منها وراثي، كاختلال الجينات الوراثية، أو عوامل بيوكيميائية لها علاقة بالدماغ ما ينتج عنها خلل في التوازن الهرموني، أوبسبب تناول أدوية معينة فترة طويلة لعلاج الأمراض المزمنة مثل السرطان والايدز والسكري، وللاكتئاب علاقة بنوعية الغذاء، وبنقص فيتامين دال، ونتيجة تعرض جسم الإنسان لبعض الكيماويات بالزيادة أوالنقصان.
أما العوامل البيئية فهي متعددة، فإن كانت البيئة المحيطة يسود فيها فقدان الأمل لدى غالبية الناس، واليأس من التغيير نحو الأفضل، إضافة إلى الحروب والتهجير والاغتصاب وفقدان الأمن، والفقر وصعوبة الوضع الاقتصادي، وضغوطات الحياة الكثيرة، والهزائم السياسية المتلاحقة، وعدم وجود ديموقراطية حقيقية وفقدان العدالة الاجتماعية، وطغيان القمع والاستبداد، وتدني قيمة المواطن، وتراجع القيم الإنسانية في المجتمع، وغياب المساواة، وممارسة التمييز بكل أشكاله، وغلبة التبعية القبلية والمذهبية على الانتماء الوطني والمواطنة، كل ذلك ينعكس على نفسية الإنسان ويخلق البيئة المناسبة لمرض الاكتئاب، الذي تظهر آثاره واضحة على هيئة أمراض عضوية خطيرة تنتشر بين الناس. كذلك من أسباب الاكتئاب: الإحباط والكبت والفراغ والقلق والوحدة والفقدان والحرمان، وضغوطات العمل ومشاكله، والبطالة، والعجز أو الإعاقة، والفشل في العلاقات الزوجية والمشاكل الأسرية.
أما أنواعه فهي متعددة، مثل الاكتئاب السريري، والجزئي، والشديد أو الحاد، وأحادي القطب، وثنائي القطب، والاكتئاب المزاجي، والذهولي، والاكتئاب الخفيف، والموقت، والفصامي العاطفي، والوسواس القهري، واكتئاب التعليم الذي يسبب الانتحار بنسبة كبيرة كما في اليابان مثلا.
لكن من هم المعرضون للاكتئاب؟ أثبتت الدارسات إن أكثر من يتعرض للاكتئاب هم من سن 24 إلى 44 سنة، ويعتبر الاكتئاب المسبب الثاني للموت لدى الشباب بعد الحوادث، وله علاقة قوية بالانتحار، ففي اليابان وحدها وصل عدد المنتحرين بسبب الاكتئاب 34 ألفا عام 2003، وقل العدد في 2016 ليصل إلى 21 الفا، ونسبة الاكتئاب عند الشباب ارتفعت من 10في المئة عام 2000 إلى 21 في المئة في 2011، ما يعني أنه كلما زادت التعقيدات والصعوبات الحياتية ازدادت نسبة الاكتئاب. وقد أشار بعض الدراسات النفسية الاجتماعية إلى أن تطور وسائل التواصل والألعاب الالكترونية جعلت الأفراد منفصلين عن الواقع وغير قادرين على التواصل الحقيقي والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين، ما يجعل الفرد سلبيا وضعيفا وأكثر قابلية للتعرض لمختلف أنواع الأمراض النفسية. وتزيد نسبة الاكتئاب أيضا لدى من يتعدى سن 75 أيضا، حيث شعور المسن باليأس والعجز وعبئه على الآخرين، وإحساسه بعدم وجود فائدة مرجوة من حياته.
كما لوحظ أن نسبة 50 - 70 في المئة من السجناء لديهم اكتئاب أحادي القطب، وعدد النساء المصابات بالاكتئاب ضعف عدد الرجال، لكن عدد الرجال المنتحرين ثلاثة أضعاف عدد النساء. فالانتحار نوع من العدوان الداخلي الذي يرتد على النفس، وعادة يتم في ساعات الصباح الأولى، وتزيد حالات الانتحار في المدن على الأرياف، وفي العطلات الإسبوعية والأعياد.
ومن أهم عوامل الوقاية من الاكتئاب: الوازع الإيماني، والانخراط في الأعمال التطوعية، والدعم من الأصدقاء والأقارب في الوقت المناسب، فالصداقة فعلا تحمي من الاكتئاب، وكذلك الابتسامة، والمديح، ورفع قيمة الذات والثقة بالنفس، والاختلاط بالناس الإيجابية التي تحب الحياة من أجل نشر عدوى السعادة والمحبة. وأساليب العلاج متعددة أيضا، منها العلاج الفردي، أي الاستشارة النفسية والاستماع للمريض من قبل مختص، لفهم مشاعر المريض وتحليل العلاقة بين أفكاره وسلوكه، وإيجاد الطرق للتغلب على المرض.
أما العلاج الجماعي فيتمثل في مخالطة المريض لمن لديهم مشاكل نفسية مماثلة، بشرط قيادة المجموعة من قبل المتخصص النفسي، كما يمكن اتباع أسلوب آخر في العلاج الجماعي عبر مخالطة من كان لديه اكتئاب، واستطاع التغلب عليه، لأن تجارب الآخرين تشكل منفذا للعلاج، ويُفضل أن تكون قيادة المجموعة ممن مروا بالتجربة وتغلبوا على الاكتئاب، أما بالنسبة للعلاج بالعقاقير فهي تخفف الأعراض لكن لا تعالج المرض بشكل جذري، كما تستخدم الصدمات الكهربية في بعض الحالات للعلاج.
وكل إنسان معرض للاكتئاب، ويمكن أن يعاني من أعراضه، لكن تأثيره يختلف نسبيا بحسب طبيعة كل شخص وقدرته على تخطي الأعراض.
وأجزم أن معظم الأمراض الجسدية أصلها نفسي، لذا حصّن نفسك أيها الإنسان العربي أينما تكون.
[email protected]