| د. فهد سالم الراشد* |
إلحاقا لما ذكرناه في المقال الفائت حول «كيف نكتب قصة؟!» نقدم لك أيها القارئ الكريم أنموذجا مبسطا من قصة «التهجير»:
هرعـت إليها الممرضة مسرعة وقفزت بنصف جسدها على سريرها واحـتضنـتها:
- ما تخافيش يا حبيبتي، ما تخافيش، عيالك كويسين، والله العظيم تلاته أولادك بخير... ربنا الطف بحالها يا رب... ده كابوس متخافيش..
بدأت المرأة تستفيق من الحلم البشع الذي راودها، رويدا رويدا ولكنها مازلت تهذي بأحداثه:
- عيالي ماتوا... إي ماتوا... أنا قتلتهم... أنا ذبحت عيالي.
وهي تجـهش ببكاء ونحيب، وقد أدخلت رأسها وسط صدر الممرضة بوشاحها الأبيض، ورمت بكل ثقلها على هذا الصدر الملائكي:
- ماعليش يا اختي فضفضي... فضفضي... بس والله ما بكدب عليك... والله عيالك كويسين، لا قتلتيهم، ولا دبحتيهم.
ردّدت المرأة بتهجد وأنفاس متقطعة تجد صعـوبة في زفيرها رافعة رأسها قليلا:
- البنك... البنك هو السبب... البنك هو اللي موت عيالي هو اللي ذبحهم، حرقوا عيالي علشان فلوسهم... يارب منين أجيب لهم فلوس... منين؟!
وخرّت باكية لا ترغب بالاستفاقة، أرادت أن تندس مرة أخرى في صدر الممرضة:
- العن أبو الفلوس واللي جاب الفلوس، ما تخفيش يا اختي تعالي في حضني تعالي.
أعادتـها الممرضة إلى صدرها وهي تقـبّل رأسها ويدها وكتفها، وبدأت تمسح على ظهرها وكتفيْـها، بكت الممرضة لبكائها وتألـّمت لألمها، وهي ما انفكت تواسيها بعبارات تحمل قـدرا من التحنان والمؤاخاة، ولم تتوقف المرأة المطلوبة من النحيب والبكاء بقهر ومرارة:
- عيطي يا اختي عيطي... وفضفضي... دنا أختك، بس ماتزعّليش نفسك، والله محدش واخد منها حاجة، دا أنا لحم كتافي من خيركم، عندي شوية صيغة شيلاهم للعوزة- ربنا ما يجيب عوزة يارب- وقيراط أرض، وشوية فلوس شيلاهم للزمن ولليوم الأسود الله ما يجيبه، هبيع الصيغة والأرض واجيبلك الفلوس، ونسدد البنك، إن شاء الله، بس ما تزعليش نفسك، والله مش مستاهله، وأهو كل من خيركم، يعني أنا جبت ده كله منين، ماهو من خيركم عليّ!
كانت الممرضة تحدثها بين البكاء والهدوء وسط ضحكات بسيـطة مصحـوبة بشجن، لتخفف عليها، وتنقلها من حال إلى حال، بمساندة تدليكها براحة كفيْـها الحانيتيْن على ظهر وكتفي المرأة المطلوبة، بكت المرأة في حضن الممرضة وكأنّها طفلة في السابعة من عمرها تعرضت لمصادرة رأيها في البيـت، هدأت قليلا من البكاء، وبقي التنهد كمخلفات حرب ضروس، وهي تقـول بصوت خافت مخنوق أجش:
- عيالي... عيا...
الممـرضة مقاطعة:
- عيالك كويسين، دا انتي كنت بتحلمي حلم اسود والعياذ بالله، وهابشرك بقى هما جايين مع أخوك عبدالله، مش برضو أخوك اسم عبدالله.
أومأت المرأة برأسها وقد أصابها الوهـن، فقد كانت اللحظات الأشد إيلاما في يومها، ثم قالت بتهجّد:
- إييي... إيه... اسمه عبدالله.
- أهو مش قلتلك، هم جايين في الطريق، ودلوقت هتشوفيهم.
- إي والله... الله يخليج أبي أشوفهم واطمن عليهم.
- دلوقت هييجوا وهتشوفيهم..
ثمّ بعد ذلك بدأ سيل الحديث يتدفق من الممرضة مشاركة وحبّا:
- أنت عارفة... أنا جيت هنا وتجوزت هنا من تلاتين سنة، وأولادي كلهم تولدوا هنا، وتعلموا هنا وتخرجوا وبقوا حاجة أبها، دانيال باش مهندس قد الدنيا، وريهام صيدلانية ومتجوزة بقالها سنة، وكل ده من خيركم علينا، ده أنا عمري مش هانسى فضلكم... والله... زي ما قلتلك، أنا هسافر وأبيع الأرض والصيغة، وأسحب القرشين إللي شيلاهم وأجيبهم لك، ونرميهم عالبنك الوسخ ده، إللي عمل فيك كل ده منهم لله، وماتزعليش نفسك، اضحكي بقى، والله مش مستاهلة انزعل نفسنا عليها، يالله أولادك جايين في السكة، مش لازم يشوفوك وأنت بالشكل ده.
ابتسمت المرأة المطلوبة ابتسامة اطمئنان، وبدت أفضل حالا مما كانت عليه، ومسكت بيدها اليسرى كف الممرضة الأيمن، مسكة حبّ ودفء، فقامت الممرضة بوضع يدها اليسرى فوق كف المرأة الأيمن مثنّية على هذا الحبّ ومستشعرة بهذا الدفء ومؤكدة تضامنها معها، ومسحت بلطف على يد وكف المرأة المطلوبة قائلة:
- أيوه كده اضحك للدنيا بتضحك لك يا جميل، الحمد لله بقينا كويسين.
استرخـت المريضة مرة ثانية على السرير بمساعدة الممرضة، طرق باب الغرفـة طرقا خجولا، قالت الممرضة:
- أيوه...
- ماما هذا واحد نفر مع بجـّا...
لم يكمل موظـف الخدمة كلامه حتى دخلت مريم من تحت ذراعه وبالمكان الضيّق بين موظـف الخدمة وباب الغرفة الذي فـتح منه جزءا قليلا، وعيناها على مَنْ في السرير، وحين أيقنت بأنّ أمها منْ ترقد على السرير، قـفزت عليها كأرنب صغـير خفـيف رشيق، وتمددت عليها طولا بطول، وقد عانقتها بيدها الرهيفتـين ودَسّت رأسها في رقبة أمها المريضة، وهي تبكي:
- يمـّممه... يمـّممه... يمّه حبيبتي.
انهارتا بالبكاء، وكانت الأم تعصرها عصرا وتضمها حتى كادت تدخلها في جسدها، في لحظة خيّل إليها بأنّ القاضي الذي رأته في المنام سيحكم عليهما معا بالإعدام شنقا. تدخلت الممرضة، وهي تداري دموعها لهذا المنظر المؤثر بين الأم وابنتها، وقد أعادت المرأة إلى وضعها الطبيعي على السرير، قالت مخاطبة البنت مريم:
- ما تخفيش يا حبيبتي... ما تخفيش ماما كويسة... أهي... شوفي والله كويسة.
ولم تستطع الممرضة أم دانيال أن تداري دموعها أكثر من ذلك، فتركت عينيْها تفيضان بالدمع المعتّق. أما الأم المريضة فبمجرد أن رأت ابنتها قفز قلبها طربا، ورفعت رأسها وكتفيْها من على الوسادة.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]