علي الرز / ضميره مرتاح ... صدقوه!

1 يناير 1970 10:07 ص
بصوت متوتر غير متماسك، وبعربية راطنة، وبتعابير وجه متقلصة متصلبة، وبنفخة صدر طبيعية ناجمة عن رياضة السباحة مع التيار، وبنظرة «الزهو» امام رؤسائه الفعليين، وببشاشة مصطنعة معطوفة على صلافة قل نظيرها... اعلن الرئيس اللبناني السابق اميل لحود وهو يغادر جمهورية الدم ان ضميره مرتاح.

ضميره مرتاح؟ كيف لا، وهو التزم تنفيذ كل ما تعهد به الى من اوصله للرئاسة قبل تسعة اعوام. رجل وعد فلم يخلف وحدث فلم يكذب واؤتمن فلم يخن.

وعد رؤساءه الفعليين بانه سيكون المثل والمثال في نقل عملية تلازم المسار والمصير من الضرورة الى التبعية المطلقة. بدأ عهده مختلفا تماما عن غيره. يومها، كان الاختبار الخارجي الاول اذ شاء القدر ان تفقد المملكة الاردنية الهاشمية ملكها الحسين بن طلال وكان من الطبيعي ان يرأس الرئيس اللبناني الوفد الذي سيقدم العزاء لكن لحود رفض السفر لتقديره الخاطئ لطبيعة الاجواء السياسية بين دمشق وعمان، وكانت المفاجأة ان الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد كان في مقدم المعزين بالحسين الى جانب زعماء العالم.

كان الغياب عن العزاء بالملك حسين اول خطوات معمودية الولاء التي قدمها لحود لدمشق، اذ كان غيره من الرؤساء يتصل لاستمزاج الرأي في القرار، اما هو فيغيب من دون اتصال، حاصدا نقاط ولاء لرصيده في دمشق وساحبا نقاط ثقة عربية ودولية من لبنان.

 ومن حادثة العزاء الشهيرة في بداية ولايته الى العزاء الدائم في لبنان مع انتهاء ولايته وبفضل ادارته. لم يغير الرجل ولم يتغير، بقي وفيا لمن اوصله، سخيا في الولاء والعطاء، واسعا في منح الغطاء. لم يبالغ خارجيا في تقليص لبنان الى ورقة في ملفات وزارة الخارجية السورية فحسب، بل بالغ داخليا في ملاحقة واضطهاد خصومه معتبرا القضاء عليهم سياسيا «أمر اليوم»... كل يوم.

كلهم فاسدون، كلهم متجاوزون، كلهم تنتظرهم السجون. سخر اجهزة الدولة لتطويق الجميع وعلى رأسهم الشهيد رفيق الحريري الذي حافظ ، بامكاناته الشخصية وعلاقاته، على مكان للبنان في خريطة العالم وترك اللبنانيين يردون على حملات لحود اليومية من خلال صناديق الاقتراع، فحصلت الانتفاضة الشعبية الحقيقية الاولى ضد النظام الامني السوري اللبناني في انتخابات العام 2000.

يومها ايضا، وللذكرى، تفتقت عبقرية قادة النظام الامني عن «كليب» دعائي تكرر في تلفزيون لبنان الرسمي عشرات المرات في اليوم يستهزئ بعبارة الشهيد الدائمة «البلد ماشي» وينهيه بعبارة «انت ماشي»، وعندما رد الناس ديموقراطيا بان الحريري باق وغيره يفترض ان «يمشي» كان القرار باللجوء الى خطط بديلة من قمع الدولة وفبركة الملفات... كان القرار الاسود الكبير الذي ترجم على مدى سنوات.

نسب لحود لنفسه انجاز التحرير. ركب موجة لا علاقة له بها اللهم الا من باب تنفيذ امر واحد بعد «عناقيد الغضب» في تسعينيات القرن الماضي، حين ارتأت الطبقة السياسية اللبنانية التي كانت مدعومة تماما من سورية وعلى رأسها الياس الهراوي ارسال الجيش الى الجنوب من ضمن ترتيبات امنية تخفف ما امكن بقاءه ساحة حرب اقليمية. اعطي امر الرفض يومها لقائد الجيش بدل اركان السلطة مقدمة لتحضيره للرئاسة وكبداية فعلية لتأسيس جمهورية الظل التي ستحكم لاحقا على قواعد النظام الامني. هذا هو «الانجاز» الوحيد الذي يتباهى به لحود مع ان غيره آنذاك كان سيلبي ايضا نداء الرفض السوري وبكل «شجاعة»، وهو «الانجاز» الذي اتضح بعد حرب يوليو الاخيرة انه كان «انجازا» اقليميا لا محليا خصوصا مع قبول لبنان نشر الجيش على انقاض دمار شامل وآلاف القتلى والجرحى.

ومنذ العام 2000 وحتى نهاية عهده، كانت «انجازات» لحود في صلب راحة ضميره: ملفات امنية وقضائية. استقطابات لفكرة تمجيد «المثل والمثال» وتكوين طبقة سياسية جديدة مؤيدة لذلك قوامها شخصيات «فذة» لم يشهد تاريخ لبنان اسوأ منها. تعطيل وتجميد كل المشاريع التنموية والقرارات الضرورية لانطلاقة لبنان مثل تعامله الكيدي مع «باريس- 2». الاساءة الى علاقات لبنان الخارجية ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر اطلاقه سراح المتورطين العراقيين في قتل شيخ المعارضين طالب سهيل في بيروت واستقباله علي حسن المجيد الذي كان «حاكما» للكويت بعد غزوها وهو الأمر الذي رفضته (استقبال المجيد) دول علاقاتها جيدة جدا بالعراق آنذاك مثل مصر والاردن. انتشار الفضائح المالية والمصرفية والقضائية ومن ذلك بنك المدينة. تجميد الحياة السياسية برمتها ورهن مسارها بالتمديد له ولنظامه الامني والتضييق تحديدا على الحريري وحلفائه. فتح لبنان على القرارات الدولية مجددا لفشله المريع في ادارة دفة الامور بعد الانسحاب الاسرائيلي والاحداث الدولية المتسارعة. تسليمه ملف الرئاسة اللبنانية والسياسة الخارجية بالكامل لدمشق التي اختلفت عن دمشق الممددة للهراوي بالاسلوب وقراءة التطورات... وصولا الى الجرائم الكبرى بدءا من محاولة اغتيال مروان حمادة وانتهاء باغتيال النائب انطوان غانم مرورا بكل شهداء ثورة الارز التي اشعلتها دماء الشهيد الكبير رفيق الحريري.

ضميره مرتاح... صدقوه. جرائم وفضائح وارتهان وقمع وفوضى وفراغ رئاسي بعدما جهد هو وحلفاؤه لاحداث فراغ حكومي وتعطيل نيابي.

ضميره مرتاح... صدقوه. وماذا يريد منه اسياده اكثر من ذلك. رجل اعتبر استشهاد الحريري «ضرب رذالة» وعبث رجاله بمسرح الجريمة واستمات لتعطيل المحكمة الدولية ثم ساهم في تعطيل دولة باسرها بعدما تشكلت المحكمة.

ضميره مرتاح لانه غائب منفصل عن ظرف المكان، متصل تماما بمصدر معروف... في محل فاعل.   

[email protected]