نقد / «أبطال وحيدون»... نظرة في شخوص روايات بثينة العيسى
| تسنيم الحبيب* |
1 يناير 1970
07:40 م
هل تصح النظرية التي تميل لكون الكاتب يكتب طيلة عطائه نصا روائيا واحدا؟ أو لنقل نصوصا متشابهة ومتقاطعة في كثير من التفاصيل؟ هل يحدث فعلا أن تمتد روح الرواية الأولى لتداخل بقية روايات الكاتب اللاحقة؟
لأكون عادلة فإن الروائية بثينة العيسى لا تكرر طرحها أبدا، فحين تقرأ لها رواية جديدة تجدها تقدم لك تجربة مختلفة عما سبق، وتحملك لعالم مختلف، فتفتح لك أبواب الزمان والمكان، وتعطيك عِبرة/ فِكرة أخرى.
لكني عثرت على أمر مشترك بين روايات بثينة، وهو سمة «الوحدة» لشخصيات الروايات الأساسية. فشخوص بثينة كلهم وحيدون في الحياة، أيتام على الأغلب، ساخطون ربما و يصعب عليهم السيل في مجرى المجتمع، متوقدون لهم رؤاهم الذاتية و نقدهم الخاص على المسلّمات، يمرون بعقدة الرواية- لوحدهم- بحيث يكون صوتهم هو الأعلى.
في «ارتطام لم يسمع له دوي» نجد ذلك بصورة «مخففة» حيث نرى «فرح» طالبة الأولمبياد و هي تشذ عن جموع الطلبة بالفكر، بالنظرة للمسابقة، وتقوم بمغامرات جريئة غير عابئة مثلا بهدف رحلة السفر الأساسية، وتتذمر من القوانين، لتقنع القارئ بتعدد النظر للتجربة. لكنها رغم ذلك تعود للوطن منصاعة للقوانين ومعبأة بالحنين، لكن في «سُعاد» نجد تلك السمة أوضح بكثير، والحقيقة أن الكاتبة نجحت جدا في رسم ملامح الشخصية بإبهار، فـ سُعاد الصبية يتيمة الأم، التي تُعايش أوقاتها وحيدة، وتمر بتجاربها وحيدة، يتحاشاها «الأقارب والنسباء» وأصدقاء العائلة ويطلق عليها أحدهم «البنت الملعونة» حين يلمس رغبة أخيه ببناء علاقة جادة معها، هذه الشخصية ومن خلال رسائلها ومن خلال أحداث الرواية نموذج فعلي لوحدة الإنسان، حيث لا مرجع عاطفيا تملكه كأم أو أب، و لم نجد أثرا لصداقات قريبة، أو حتى علاقات متوازنة.
ثم تعود هذه السمة بوضوح كبير في «عائشة تنزل للعالم السفلي»، حيث نجد الثكلى التي أصبحت بعد الفقد زوجة غير طبيعية وابنة غير طبيعية، تقضي أيامها في حسابات الموت، ولياليها على أريكة الصالة، وتعيش في عوالم الحلم حيث زيارات العالم السفلي، هنا لم نجد أثرا لشخصية مواسية إلا ربما الأخ الملتزم دينيا، وكان ذلك انعطافا جيدا أدارت من خلاله الكاتبة سمة الوحدة بنحو ملفت بعد الفصول المؤلمة.
بهذا المعيار نفسه تطل علينا شخصية فاطمة في «كبرت ونسيت أن أنسى»، فتاة يتيمة أيضا تفقد كل ماضيها، عزلاء تواجه الواقع، في سرداب بيت أخيها المتزمت تعاني أيضا وحدة مستفيضة جدا، فلا يعود والداها ولا ترحمها أسرة أخيها، وحتى حين تكون أسرتها الخاصة لا تستطيع العيش ضمن قوانين الاعتياد فتحنق على نفسها حين تعد طبق السلطة و تشكل ثمرة الطماطم بشكل وردة، وترفض أن تسيّرها قوانين المجتمع وبالطبع تواجه كل ذلك وحيدة.
ولعل أبرز الروايات التي تتجلى بها هذه السمة هي رواية عروس المطر، فأسماء تعيش الوحدة والاستغلاق بمعناه المُحكم، في سكن منفصل مجاور لبيت العائلة، نديمها توأمها الميت وأحلامها.
الملفت للانتباه أن روايتي «تحت أقدام الأمهات»، و«خرائط التيه» على تعدد الشخوص فيهما لا تفلتان من هذه السمة، فالشخصيات الأبرز لها رؤاها الخاصة وقوانينها الذاتية، فالبنت مثلا في «تحت أقدام الأمهات» ناقمة على سياسة أمها، والأم بنفسها ذات شخصية وحيدة حملت من الصحراء و ذخيرة الطفولة إرثا صارما، و«علي بن فهاد» أيضا وحيد ويتيم الأب ومختلف عن أقرانه، وفهاد بنفسه عاش صامتا غير منسجم مع جو بيته وأسرته وإن اكتُشف ذلك متأخرا بعد موته. وكذلك الخادمة المخلصة تعيش وحدة نسجها الانكسار. و في خرائط التيه أيضا يلمس المتلقي أن الحادث الذي ألم بأسرة مشاري كشف وهم العُرى الأسرية التي يفترض بها أن تكون متينة، فكل من سمية وفيصل تاها في عوالم ذاتية، هربت منها لغة الحوار المشترك وظهرت هوة مخبوءة كانت تفصل بينهما أساسا واتسعت.
هذه المسيرة السردية للكاتبة المبدعة- التي تغوص دائما في الوجع الخفي للإنسان- أكدت لي أن الوحدة/ الاختلاف/ الاغتراب سمة شخوص العصر، وأن كثيرا منا يحياها ويتساءل كيف يطير مع السرب وكيف يعاكسه.
* كاتبة وناقدة