| د. فهد سالم الراشد* |
البيئة... أو المكان سمه ما شئت؛ المهم أن نجد بيئة خصبة وملائمة لاحتضان الدراسات والبحوث، وأعني بالبيئة الخصبة تلك البيئة التي توفر مناخا هادئا للباحث العالم بعيدا عن ملهيات الحياة ومشاغلها ومشكلاتها، وهذا معمول به في أميركا؛ فالباحث العالم لا ينجز معاملاته اليومية ولا يسدد فواتير الكهرباء والماء ولا يشغل نفسه بتوصيل الأولاد إلى المدارس، لأن الدولة وفرت له من يقوم نيابة عنه بجميع هذه الأعمال، وفرّغته للبحث العلمي الذي سوف تستفيد منه الدولة بلا شك.
أما البيئة الملائمة هي تلك البيئة التي تتوفر فيها آليات التنفيذ، والحديث عن الآليات يطول ولا مجال لبسطه ههنا، ولكن على سبيل المثال لا أقيم مصنعا على أرض نفطية، فمدخول النفط أكثر بكثير مما يدره عليّ المصنع؛ ولكن من الممكن أن أعمل مصنعا خارج القطر وبعمالة رخيصة الأجر ومتوفرة، ولا يعيب الدول بألا تكون دولة صناعية، فلكل دولة مقوماتها وثرواتها وهي شريك فاعل في الصناعة حتى لو لم تكن صناعية، ولكنها أسهمت في توفير المواد الصناعية.
اختيار الخبراء
المصطلح يدل على أن هناك خبرة؛ والخبرة لا تتأتى إلا بعد طول بصر وبصيرة وقراءة وبحث وتجارب وفرضيات وسفر واطلاع على ثقافات الآخرين وتجاربهم والاستفادة من خبراتهم، بالإضافة إلى الفراسة والحدس؛ وإن صح القول فإن الخبير يجمع ما بين المستشار والمستشرف، والاستشراف ليس علما قائما بذاته، بل هو مصطلح يسبق أي علم كمصطلح الاستراتيجية – مثلا – فهناك الاستراتيجية الحربية والتربوية والاقتصادية... وهلم جرا؛ وإلى يومنا هذا نكاد لا نجد ترجمة واضحة لمصطلح «استراتيجية»؛ فهل هي ترجمة «خطة»؟ أم ترجمة «تصور»؟ علاوة على أننا وضعنا لها الهمزة سواء أكانت بهمزة قطع أم وصل، وجعلنا منها «مصدرا صناعيا» مثل «ديموقراطية «، والغريب في الأمر فلا يكاد يخلو كتاب من كتب التربويين من استخدام هذا المصطلح؛ وهو في الحقيقة مصطلح «عسكري حربي».
لذا أرى أن الاستشراف هو مصطلح يسبق كل العلوم. على سبيل المثال، الاستشراف التربوي الاستشراف الاقتصادي الاستشراف الاجتماعي... وهكذا. ولو أردنا أن نعرّف المستشرف؛ فمن هو المستشرف؟ وما مؤهلاته؟ وماذا لديه من خبرة؟ وماذا قرأ؟ وماذا أنجز؟ وماذا اخترع وابتكر؟ وماذا كتب وألف؟ وماذا صنع؟ فلا يعقل أن نأتي برجل أو امرأة لم يتجاوزا الثلاثين من عمريهما ثم نطلق على كل واحد منهما مسمى «خبير»! أين الخبرة في هذا العمر القصير؟ فالمستشرف هو ذاك الخبير الاستشاري الذي أفنى معظم عمره بدقة البحث والتحري والعمل الجاد والدؤوب.
وللأسف- ففي يومنا هذا- قد اختلط الحابل بالنابل، كما يقال؛ فلم نعد نفرق بين الباحث المدقق والقارئ المتذوق. ولم نعد نعرف الإداري من الفني من المتخصص من المختص. ولعل هذه الازدواجية، أو قل هذه الفوضى العصرية عندنا هي سبب رئيس في عرقلة مشاريعنا؛ لأننا لا نعرف من أين نستقي المعلومة؟ وكيف ننهل من المعرفة؟ وكيف نستفيد من الفكرة ونوظفها في إطارها الصحيح؟ كل من هب ودب أصبح خبيرا. وجاز له أن يستشرف للمستقبل في جميع الميادين، فإذا لم نتريث قليلا ونرجع إلى الوراء لنصلح هذا الخلل، ثم ننظم صفوفنا من جديد، ونرتب أفكارنا، ونضع الأمور في نصابها والمسميات في موضعها الصحيح، وبعد ذلك ننطلق من قاعدة واضحة وصلبة ـ القوائم وفق ضوابط ومعايير ومقاييس دولية وعلمية بحتة، لكي يتسنى لنا المضي قدما في إنجاز مشاريعنا والاستفادة منها، وإلا فسوف نظل نتخبط ونراوح مكاننا ولن نخرج من المربع الأول ولن نتجاوز نقطة الصفر إلى الأبد .
ميزانية المشروع
لكل مشروع شقان؛ شق إداري، وشق فني تقني. وميزانية المشروع تجمع الاثنين معا، فالشق الإداري معني بميزانية المشروع ككل لا يتجزأ، وهناك لجنة مراقبة تتابع إنجاز المشروع وفق الميزانية المخصصة له، وقد لا تنظر إلى جودة المشروع ومدى الاستفادة منه؛ إذ أن بعض المشاريع المهم فيها أن تنجز وتدون كنشاط للمؤسسة أو الوزارة والإدارة أو المنظمة- ولاسيما- في نهاية السنة وفي إقفال الميزانيات، ولكن الشق الفني التقني يحرص كل الحرص على جودة المشروع؛ لذا فهو يحرص على استقطاب أفضل الخبراء والمستشارين، وأفضل الأيادي العاملة، حتى لو كانت التكلفة كبيرة، وحتى لا نقع أسرى ميزانية ضعيفة، وتأتي مشاريعنا هشة ومهلهلة، بحجة الرخص، فمنذ البداية ينبغي أن نعد ميزانية مفصلة ومجزأة على المشروع، ونعتمد على مراكز القياس في مدى الاستفادة من هذا المشروع.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]