رؤى / كيف تتذوق السينما؟

1 يناير 1970 06:03 م
إن السينما بوصفها فنا يجمع في طياته فنونا عدة، وتقنيات كثر، وتستطيع أن تخاطب أكبر شريحة من الناس، لأنها فن جماهيري في الأساس، يستند إلى البصر، الذي هو الذاكرة الأقرب والأسهل والأيسر لكل إنسان، فمن المعلوم أن النظر الحاسة الأولى في التلقي لدى الإنسان، ويصاحبه السمع، ومن ثم يتفاعل المرئي مع السمعي في الإدراك العقلي والوجداني، لتحدث المعرفة المبتغاة، والمتعة المنشودة، والتأثير المستهدف، وكل هذا يحمل في طياته الكثير من الرسائل والإشارات والعلامات والمعارف والخبرات، لأن السينما ببساطة فن شامل للقول والحركة والحكاية والموسيقى والمكان والزمان والديكور والشخصيات، ما يستوجب تلقيا شاملا لهذه العناصر والمفردات مجتمعة معا، ثم التفصيل والتمعن عند عناصر معينة تميز فيلما عن آخر، وتبقى في ذاكرة المتلقي وأعماقه دوما.

فحب السينما لا يتأتى أبدا من منهج نقدي ولا قراءة كتاب وما شابه وإنما يأتي من علاقة حميمية خاصة، في ما يمكن أن نسميه تجربة عاطفية بين المتفرج والفيلم، فإذا لم توجد فلا فائدة من أي حديث في النقد السينمائي، ولا فائدة ممن تصدى للنقد السينمائي دون أي يكون لديه تراكم بصري كبير بالأفلام العالمية عالية المستوى، فهناك من يدعي النقد، وقد يملك منهجية نقدية من خلال دراسته الأكاديمية، ولكنه لا يملك رصيدا كافيا يؤهله لتذوق جماليات الأفلام، والحكم عليها. وبعبارة أخرى، فإن السينما مثل سائر الفنون والآداب، لابد للناقد والمتذوق والباحث في مجالها من تكوين خبرة جمالية وفكرية وتقنية بها، قبل أن يتصدى للتحليل والحكم والنقاش، وإلا سيكون بمن يطبق آليات نقدية دون ذائقة جمالية.

إن السينما فن عظيم، ومن المهم إدراك الناقد السينمائي لأهم المفاهيم السينمائية الموسومة بها الأفلام، لكونها أطرا وتصورات وإجراءات يمكن الاستناد عليها وتنميتها وتعميقها في صياغة مفاهيم النقد السينمائي وأسسه. فالهدف هنا قراءة الفيلم السينمائي، ضمن رؤية نقدية سينمائية تنظر إلى السينما بوصفها نصا سرديا/ حكائيا، فيه القصة والأحداث والحوار والشخصيات، وما يستتبع ذلك من دلالات وإشارات وعلامات، وما يستلزمه من تأويل وتفسير وقراءة ضمن معطيات ثقافية وحضارية ونفسية وجمالية. فــ «السرد خطاب يقدم حدثا أو أكثر، ويشمل إنتاج حكاية أي سرد مجموعة من المواقف والأحداث. والسرد بوصفه منتجا يتعلق بحدث حقيقي أو خيالي أو أكثر، يقوم بتوصيله واحد أو اثنان أو عدد من الرواة. أما عن وسائط تقديمه فهي عديدة متنوعة، شفاهية ومكتوبة، وتشمل الصور الساكنة أو المتحركة، والإيماءات، وأي تأليف (حكائي) منظم».

فإذا وعى الناقد/ المتذوق السينمائي أن الفيلم هو سرد أي: حكي وخطاب، فإنه يفتح له مجالات واسعة لقراءة السينما ضمن معطيات المناهج النقدية والإنسانية، المعنية بتفسير الخطاب، مثل النقد الثقافي، السيمياء، الهرمنيوطيقا، النقد الاجتماعي، النقد النفسي، بجانب النقد التقني المعني بفن السينما تحديدا والذي يشمل: السيناريو والإخراج والتصوير والإضاءة والحركة والأداء الدرامي التمثيلي والديكور. وكلها معطيات تساهم في تشكيل الخطاب السردي السينمائي من جهة، ولها أدوارها الدلالية من جهة أخرى، أي أننا نقرأ الفيلم قراءة شاملة لكل مكوناته.

ومن المهم الوعي بأن أساس النقد السينمائي هو المنهج التحليلي، الذي يعني تحليل الفيلم فكريا وجماليا، والوقوف على عناصر الفيلم، ومناقشتها بشكل معمق، فالتحليل يبدأ بنظرة كلية، تعقب المشاهدة، ومن ثم دراسة عناصر الفيلم المكونة له: الفكرة، الرؤية المطروحة، جماليات الضوء والصورة، جماليات أداء الممثلين، جماليات الإخراج، السرد والشخصيات والأحداث، فالتحليل في النقد السينمائي يعني: تفتيت الكل لاكتشاف طبيعة الأجزاء وتناسبها ووظيفتها، وعلاقاتها المتداخلة، ولا يعني التفتيت التجزئة والإغراق في الفرعيات، وإنما يفتت ضمن رؤية كلية، ومن ثم يعيد تركيب العناصر، أي من الكلي إلى الجزئي، ثم من الجزئي إلى الكلي. فالتحليل السينمائي يفترض مسبقا وجود عمل فني كلي موحّد ومنطقي التركيب، مع الأخذ في الحسبان أنه لا يوجد تحليل تام وفهم كامل للسينما، فهي مثل كل الفنون والآداب، تتعدد مداخل ومناهج دراستها، وبالتالي تتعدد قراءاتها، وتظل منفتحة على كافة أوجه القراءة والتأويل، وبالتالي لا إجابات نهائية قاطعة حول أي عمل من أعمال الفن، بل هو منفتح بانفتاح الزمان والأذهان.

فالتحليل يساعدنا على تثبيت تجربة التذوق السينمائي في عقولنا حتى نستطيع أن نستمرئها أطول مدة في ذاكرتنا، فنحن ننشغل بالفيلم فكريا وإبداعيا معا، وبذلك يشمل التحليل الناقد المتخصص، والمتلقي المهتم، والمتفرج العادي، فكلٌ منهم يطرح أسئلة، وتثور في نفسه إشكالات وقضايا، لن يجيب عنها سوى التحليل السينمائي. فالغاية الكبرى من التحليل أن يفتح سبلا جديدة للوعي، وأعماقا عديدة للفهم، وكلما ازددنا فهما اكتمل وعينا في تذوق الفن، وإجلاء وإيضاح دلالاته.

فعملية تكوين التلقي يأتي على دربين كما يذكر جوزيف بوجز في كتابه «فن الفرجة على الأفلام»، الأول ما يسمى «النسق المعهود» والذي يعني: ما درجت عليه الأفلام المتميزة في طريقة بنائها وجمالياتها وسردها، فالسينما باتت شكلا فنيا مستقرا له خصائصه المعروفة.

والدرب الثاني «النسق غير المعهود» ويعني الأفلام التي تبنى بشكل مغاير لما هو سائد على نحو ما نجد في السينما التجريبية، التي هي سينما تمارس التطور، والشغب، والتمرد، على السينما المعهودة في العالم. ولابد من وجودها جنبا إلى جنب مع النسق المعهود، فالتجريب هو الوجه الآخر للإبداع، وبداية الإبداع تجريب، فالسينما التجريبية هي البوابة الخلفية للإبداع، قبل أن ينتقل ويستقر في البوابة الأمامية ويصبح ضمن نهر الإبداع السينمائي المعهود.

* كاتب وناقد مصري