حوار / صدرتْ له الطبعة الإنكليزية من كتاب يحكي «شواهد الناس والأمكنة»
هنري زغيب لـ «الراي»: جبران خليل جبران... شعّ على العالم من صومعته الصغيرة
| بيروت - من زهرة مرعي |
1 يناير 1970
05:54 م
لم يلازمني جبران فقط وأنا في نيويورك... فقبْلها وأنا في لبنان كان يعيش معي وأعيش في عالَمه
يثابر الشاعر والأديب اللبناني هنري زغيب بحبّ وشغف على البحث في أدب جبران خليل جبران، ولأجله كانت له في الولايات المتحدة الكثير من الجولات الاستطلاعية متقفياً أثره.
ونجده في تتبعه لأثر جبران، بدءاً من الميناء الذي وطأتْه قدماه على شواطئ نيويورك مع والدته وأخيه سنة 1895، يسعى لأن يقرأ في الأديب العالمي أثر الغربة، والأثر المديني الذي عاشه في تلك البلاد النائية.
العام 2012 أصدر هنري زغيب مؤلَّفه «جبران خليل جبران- شواهد الناس والأمكنة»، وأخيراً وقّع الطبعة الانكليزية منه التي صدرت عن مركز الدراسات اللبنانية - لندن. وبهذه المناسبة أجرت «الراي» الحوار الآتي معه:
• بعد أربع سنوات على صدور الطبعة العربية في بيروت لكتابك «جبران خليل جبران- شواهد الناس والأمكنة»، صدرتْ في لندن طبعته الإنكليزية، فماذا عنها وأنت المهتمّ منذ أعوام بتراث هذا الكاتب اللبناني العالمي؟
- أَبرزُ ما فيها: لقاءاتٌ مع معاصرين لجبران كنتُ التقيتهم العام 1984 في نيويورك، وحاورتُهم عن شخصيته ومزاجه وسلوكه ومزايا خاصة لم يسبق صدورُها لدى مَن كتبوا عن جبران شخصيًّا وأَدبيًّا. كما رويتُ زياراتِي لأَماكنَ عاش فيها جبران بين بوسطن (بيوته المتعددة، مدرسة ماري هاسكل)، ونيويورك (مكان المبنى الذي سكنه، الحديقة العامة التي كان يتردَّد إِليها، مبنى مجلة «السائح» منبر «الرابطة القلمية»، مستشفى سانت فنسنت حيث توفي جبران ليلة الجمعة 10 ابريل 1931). وجديد هذه الطبعة: حصولي على بيان الباخرة الهولندية التي نزل منها جبران في نيويورك على مرفأ «إِيلّيس آيلند» مساء 17 يونيو 1895 ويَظهر فيه أَنه مسجَّل تحت اسم «جبران رحمة» قياساً على اسم أَخيه البكر بطرس (من أُمه وزوجها السابق حنا عبد السلام رحمة). وهكذا دخلتْ العائلة كلها إِلى نيويورك تحت اسم عائلة «رحمة». وفي الكتاب نسخة مصوَّرة عن مانيفست الباخرة الذي يَظهر فيه هذا الأَمر. وفي فصول أُخرى من الكتاب معلومات تاريخية عن زيارةِ باربرة يونغ مدينةَ بشري في 8 اكتوبر 1939، وتفاصيل عمَّا يبقى اليوم من بيت جبران في بشري ومن مسكنه في نيويورك.
• ككاتب وأديب ما حافزك لتتبُّع أثَر جبران في نيويورك بالذات؟
- يوم وصلتُ إلى نيويورك العام 1985، لَم يَعنِ لي أننا وصلنا إلى مطار جون كيندي في نيويورك، بل أنني وصلتُ إلى المدينة التي عاش فيها جبران. وصممتُ على أن أزور الأماكن التي عاش فيها أول وصوله الى نيويورك في ضيافة صديقه أمين الريحاني، قبل ان يستقرّ في محترفه (المبنى 51 في الشارع 10 غرباً) الذي عاش فيه عشرين عاماً متواصلة. هكذا كنتُ أشعر كلّما سرتُ في أَيِّ شارعٍ ذي علاقة بِجبران في هذه المدينة التي عاش فيها وتنقَّل طوال عشرين عاماً، منذ وصوله إليها العام 1911 وحتى رحيله العام 1931.
• بحثتَ عن المناخ المديني الذي عاش فيه جبران إبّان هجرته. فكيف ترى انعكاسه على أدبه؟
- بحثتُ عن هذا المناخ المديني طوال إقامتي في نيويورك لأستكشف كيف عاش فيه، عبر الناس الذين عرفوه أو عايشوا مَن عرفوه، والأمكنة التي رسمت خريطة حياته. وكان يلازمني شعور صامتٌ كلّما مشيتُ في تلك الشوارع، فأَتَخَيَّل على أرصفتها وقْعَ قدَمَين لعبقريّ من لبنان كان يَمشيها قبل سبعة عقود، وأوصلتْه إقامته هنا إلى العالمية فالخلود.
• كيف تفسّر رحلتك في سيرة جبران، بهذا الحيّز الرحب الذي يشغله في حياتك الأدبية؟
- جبران لم يلازمْني فقط وأنا في نيويورك. فقبْلها، وأنا في لبنان، كان يعيش معي وأعيش في عالَمه. ففي مكتبتي جناحٌ خاص به هو الأكبر والأغنى بين جميع الأجنحة في مكتبي، بما يحوي من كتُبٍ عنه وصوَر ومجلات ووثائقَ أعود إليها عند كتابتي نصاً أو حاجتي إلى معلومة. وعند الاحتفال بخمسينيته فمئويته، كانت لي كتاباتٌ ومتابعاتٌ صدَرَت في أكثر من جريدةٍ ومَجلة وإذاعة وتلفزيون. وكنتُ في لبنان شاركتُ بخمسينية جبران (1981) ومئويته (1983). وفي الذكرى 125 لولادته، جعلتُ من «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الأميركية منبراً لأربع ندوات أضاءت جديداً على نواحٍ مختلفة من أدب جبران وسيرته.
• لاحظنا من الكتاب أنك لم تتابعه في نيويورك فقط؟
- صحيح. عند وصولي إلى الولايات المتحدة، وقراءتي كتاب النحات البوسطني خليل جبران «جبران: حياته وأعماله»، ألحّ عليّ مراراً كي أغوص في حياة جبران في معظم تفاصيلها، فقرّرتُ أن أَزور الأماكن التي سَكَنَها. سافرتُ إلى بوسطن وزُرْتُ شوارعها وأحياءَ فيها شهِدَت سنواتِه الأميركيةَ الخمسَ عشرة الأُولى (1895-1910)، وزرتُ مدرسةَ ماري هاسكل في شارع مارلبورو، وكنيسةَ سيّدة الأرز التي سُجِّيَ جثمانُه فيها، والساحةَ التي على اسمه اليوم واللوحة التذكارية فيها، وزُرْتُ النحات خليل جبران وزوجته جين وعندهما عاينتُ نايَ جبران وبعضَ ثيابه ومئاتِ الوثائق التي جمعَها خليل وزوجته طَوال سنواتٍ وشكّلَت مادة كتابه البيوغرافي الشهير.
• وفي نيويورك وسواها؟
- في نيويورك زرتُ الشارعَ الذي كان فيه مُحترفُه، والمستشفى الذي توفي فيه، والأماكنَ التي كان يتردَّد إليها أو هي ذاتُ علاقة بِحياته في أَسفل مانهاتِن. ثم سافرتُ إلى سا?انا (جورجيا) وزرتُ بيتَ ماري هاسكل وقريباً منه مُتحف تِلْفِير الذي أَودَعَتْه ماري لوحات جبران إليها، ثم سافرتُ إلى نورث كارولاينا وزرتُ جامعتَها في «تْشاپِّل هِلّ» التي أَمضيتُ في جناح أرشي?ها الغنيّ ساعاتٍ مُمتعَةً طويلةً أُقلِّب بين يدَيَّ الرسائلَ الأصلية بين جبران وماري ودفاترَ يومياتها الخاصة. وفي ميريلند شاركتُ مرتين في المؤتمريْن الدولييْن الأول والثاني للدراسات الجبرانية سنة 1999 وسنة 2012 بدعوة من مؤسس كرسي جبران في الجامعة الراحل الدكتور سهيل بشروئي.
• إلى أيّ حدّ طبعت الولايات المتحدة أدب جبران؟ وهل أبعدتْه عن لبنان؟
- مسيرته الأميركية (1895-1931) طبَعَت حياته وأدبه، وتَجربتي الأميركية طبعَت بي الكثير من معرفتي المناخَ النفسيّ والذهني والعاطفي الذي عاش فيه، ففهمتُ ميدانياً حنينَه إلى لبنان، وطعْمَ الغُربة عن بشرّي ووادي قاديشا، وحُلْمه - كما قال يوماً لِميخائيل نعيمه – أن يزور وادي قاديشا من جديد، وهو الذي، على أيّ حال، أوصى بشراء دير مار سركيس كي يستريح فيه عند غيابه الأخير.
• تحدثتَ في كتابك عن طعم الغربة في أدب جبران. هل قطْع الجذور مستحيل؟
- قوياً كان حنينُه إلى أرضه الأُمِّ التي تظهر وهادُها وهضابُها وجبالُها في خلفية عددٍ وافرٍ من لوحاته التي رسمها في صومعته النيويوركية، مع أن نيويورك أَطلقتْهُ، في سنواته السبْع الأخيرة، إلى شهرةٍ ما كان مُمكناً أن يبلغها من أرضه الأُمّ. ولبنانيَّتُه التي لم يتخلَّ عنها حتى وهو في عزّ مَجده الأميركي، جعلته يفتتح فجر أن يكون المبدع مواطناً عالَمياً من لبنان.
• كيف يرى الغرب أدب جبران؟ هل عاينتَ ذلك في رحلاتك الأميركية؟
- من صومعته الصغيرة شَعَّ على العالم الكبير. وفي ربع قرنٍ من الزمن: منذ كتابه الأوّل في العربية «نبذة في الموسيقى» (1905) حتى كتابه الأخير في الإنكليزية «آلهة الأرض» (1931)، ملأ زماناً من أدبه لا يزال يتردّد وإلى زمن طويلٍ بعد. كأنه البحر، كيفما سِرْنا على شاطئٍ نكاد، في شكلٍ أو في آخَر، نكون على رمالٍ من شاطئ جبران الذي كان طليعةَ التجديد في زمن اللغة العتيقة، وصدارةَ الرؤيا في زمن الرؤية التي كانت تبحث عن جديد.
• هل كتابك عنه يندرج في خانة الدراسة الأدبية؟
- كتابي عنه ليس دراسةً في أدبه. فالكتابات عنه لا تُحصى، وفي معظم لغات العالم. إنها بالأحرى رحلةٌ بدأْتُها قبل ربع قرنٍ صوب جبران، مُحاولاً نسْجَ خُيوطٍ في شخصيّته من خلال مَن عاصروه وقابَلْتُهم في الولايات المتحدة خلال إقامتي فيها العام 1985، ورسموا لي ملامح من ذكرياتهم عنه كما عرفوه، ومن خلال الأماكن التي كان يتردَّد إليها، أو ذات العلاقة المباشرة بحياته في بوسطن أو نيويورك. إنها إذاً رحلةٌ صوبَ الرجل الكاتب، لا صوب الكاتب وحسْب. لذا لم أُرَكِّز على أدبه دارساً أو ناقداً أو باحثاً أو مُحلِلاً، بل دخلتُ إلى زوايا من عالَمه الخاص الذي نتج عنه، جزئياً أو كلياً، ذاك الأدب وتلك الكتابات. لعلّي اليوم، بإصداري هذا الكتاب، أَفي ما في بالي من وفاءٍ لجبران. فالكتاب مَجموعُ أبحاثي عن جبران، بعضُها في لبنان وبعضها الآخر في الولايات المتحدة التي كان دأْبي فيها أن أَبحث عن جبران في إطار المكان المحدود الذي خرج منه جبران إلى الخلود الأوسع.