حوار / تستعد لإصدار رواية «ما اسمي» عن طفل سوري يبحث عن هويته بين ركام حلب

مي منسى لـ «الراي»: أكتب ليبقى ضميري جاهزاً لقول الحق

1 يناير 1970 11:11 م
السيرة الذاتية تليق بمن صَنع للإنسانية أعمالاً غيّرت مجرى الكون

الكتابة كرئتي التي أتنفّس بها وقلبي الذي يقرع فرحاً في الأعراس وحزناً في الموت
تكتب الروائية اللبنانية مي منسى... لتحيا. هي التي تراهن على حواسها كلها. يكتنف الكلمة في رأيها سرّ يخطفها إلى عوالم واسعة لا تُعدّ ولا تحصى. وإذ بها تكتب، يعتريها شعور بامتلاك سرّ الزمن، برمشة حبرٍ تحييه، وبممحاةٍ تغيّر معالمه.

«الراي» كان لها هذا الحوار مع الصحافية والروائية عن البوح والكلمات... عن البدايات والنهايات، وأعمال لاحقة...

• ما يقارب خمسين عاماً من الاتصال والتواصل، الحكي والمحاكاة والمماحكة. أي مكانةٍ بَلَغتْها الكلمة في حياة مي منسى؟

- في البدء كانت الكلمة وبها صار للإنسان لسان يتعامل من خلاله مع أخيه الإنسان. لقد دخلتْ الكلمة في حياتي الصحافية أولاً، فعشقتُ حروفها وصرتُ منها أبني عالمي. لكن للكلمة سرّاً يخطف كاتبها إلى عوالم واسعة لا تُعدّ ولا تحصى. هكذا على صهوة الكلمة رحلتُ، وفي هذه المغامرة الشيّقة مع الكتابة وصلتُ إلى الرواية، الأكثر إثارة من لغة الصحافة، والأكثر منها ديمومة.

• تبدو الكتابة عندك وكأنها فعل اعتراف، بوح، تَحرُّر. هل فتحت أمام اللغة كل أبواب الذاكرة، وهل يُبقي الوفاء للقلم سراً من دون أن يطوله؟

- الكتابة تعني أن أنفرد في عالمها وأسمع صوتها يكلّمني ويحضّني على هذا التبادل الشيّق معها. الكتابة تغدو بوحاً، صمتاً، صراخاً من الأعماق، لا يَسمع دويّه سوى الورقة. هنا في عزلتي مع الورقة أتيه في الوقت، أضيع بين ثوانيه، أَمضي في الذاكرة إلى أمور نسيتُها فعادت تتفتح كحديقة بعدما تلقت من القلم ريّاً. فمَن يكتب يعتريه شعور بامتلاكه سرّ الزمن، برمشة حبرٍ نحييه وبممحاةٍ نغيّر معالمه. فإذا كنا بالصحافة ننقل الحدث، فان في الكتابة الشخصية ابتكاراً وإبداعاً. الموسيقي يؤلّف سمفونية من عدة آلات، يراهن على دقة السمع في تأليفه عملاً بارعاً بتناغماته وهارمونيته، له حدود ليس بإمكانه تجاوزها، أما الكاتب فيراهن على حواسه كلها، بوحيٍ لا حدود له، وكلماته ترشّ على الورقة روائح البريّة، وطعم السكر والمر، وصوت ناي عند الفجر. أجل! الكتابة هي كل ذلك، مجلوة من تعب الحياة وضجرها، أكتب لأحيا.

• يحمل كل عمل نشرتِه شيئاً أو أشياء منك. هل تزمعين في مرحلةٍ ما كتابة سيرتك الذاتية وجمْع كل هذا البوح في كتاب واحد؟

- السيرة الذاتية تليق بإنسان صَنع للإنسانية أعمالاً باهرة، من اكتشافات واختراعات وأفكار فلسفية غيّرت مجرى الكون. أنا لم أقدم على هذا الترقّي من المواهب لتكون لي سيرة تخلّدني. موهبة الكتابة جعلت مني راوية، في حبري مأساة الإنسان والحروب المدمّرة والمنافي والهجرة والعزلة والموت. هذه هي المواضيع التي جعلتُ منها سيرة حياة. المرأة القابعة فيّ، تغدو من رواية إلى أخرى كل النساء. وحين أتكلّم عن أمي وأوجاعها فكأنني أكتب عن وجع كل الأمهات. أنا لم أخسر ذاتي في رواياتي، بل أردتُ في فعل الكتابة المقدّس أن أدعو إلى ورقتي الإنسانية المعذّبة وأجعلها تصرخ عالياً أوجاعها وتشي على الظلم والإرهاب والقتل.

• الكتابة الروائية بوصفها رحلة في غياهب الذات. كيف تعيشين بداياتها وكيف توجزين النهايات؟

- لكل عمل روائي نقطة انطلاق، وُلدت من حدث مهمّ دوّى صوته في وجداني. صورة الولد الذي ملأ شاشة التلفزيون فيما كنت أتابع بألم نزوح السوريين عبر الحدود اللبنانية، كان موضوع روايتي التي ستصدر بعد أيام في معرض الكتاب الفرنسي. نظرات هذا الطفل محدّقاً فيّ، تلقيتُها رسالة عاجلة منه إلى قلمي. منذ تلك اللحظة بدأتُ أرسم له إطاراً لحياته ودروب تيه وضياع لقدميه المتعثّرتين في أشواك الوجود، أبحث له عن اسم، عن أم وعائلة. هذا الولد من بين مئات الآلاف من المشرّدين في هذه الحرب القذرة، صار قضيّتي تحت عنوان كبير «ما اسمي». هنا ينجح النفَس الروائي في جذب القارئ إلى قصته أو يفشل حين تأتي الكتابة فاترة، لا تبلّل الورقة بالدموع والحسرة. فالقلم الجاف لا يوصل رسالته إلى أحاسيس القارئ ولا يحضّه على الوقوف في وجه الظلم. فالكلمة هنا سلاح ذو حدين، موجع يغرس في الصميم، أو مُسالِمٌ يدعو إلى المحبة والأخوّة والسلام.

• ما المكان الذي تبلغينه بالكتابة تحليقاً ولا تطأه قدماك في واقع الحياة؟

- الكتابة الروائية ليست شعراً وقوافي يحلّق بها الخيال إلى عوالم ميتافيزيقية غير ملموسة. من مآسي الأرض أكتب، لأبقى شاهدة على ما يجري. أنا ابنة الأرض ولا أعلو عنها. فرسالتي الأدبية باتت معروفة، أكتب ليبقى ضميري جاهزاً لقول الحق، ولو أن الكتابة لا تشفي ألماً ولا توقف حرباً ولا تصدّ إرهاباً. الكتابة تصرخ هولاً أمام هدر الدماء من عنقِ بريءٍ مذبوحٍ بسكينِ قاتلٍ لا يعرف من الله سوى اسمه. الكتابة تتألّم مع المتألّمين ولا تشفي جراحاً. لذا أحملها معي كرئتي التي أتنفّس بها وقلبي الذي يقرع فرحاً في الأعراس وحزناً في الموت.

• تقترن الكتابة بالوحدة... هل هذه الكتابة هي عزلتك المأهولة؟

- هي الوحدة التي لولاها لن تكون الكتابة. الوحدة التي باتت مع الزمن كسائي ومسكني، وسّعت لي ذراعيْها لاحتضان الكتابة. فبعد انفصالي عن الحياة الزوجية، تعلّمتُ العيش بصيغة المفرد، أتثنى بذاتي، أتحاكى معها، لا نفترق. هذه الخلوة هي خلوة الكاتبة، هي المحبرة التي لا ينضب حبرها. الصمت حولي لا يخيفني بل أتكيّف معه لأفكّر أعمق. فما من صوت آخر سوى صوت الصمت باستطاعته أن يهبني متعة الكتابة، ولذة الانغماس بمعجزة الكلمات. بيتي مقسّم إلى مكتبة تحوي مؤلَّفات كبار المفكرين والأدباء أمثال جبران خليل جبران ونيتشه وسقراط وشكسبير وتولستوي وشعراء الجاهلية، هي مرجعي حين يضيق الوحي في دماغي. ومن جهة أخرى حديقة تفوح منها روائح الورد والياسمين والغاردينيا، تستقبلني باكراً مع قلمي وأوراقي وقهوتي. هنا أكتب على تغريدة شحرور اعتاد هذه الصبحية الباكرة معي، ينقد ما يحلو له من عناقيد عريشتي ومن حفنة البرغل التي بات يعرف موضعها على حافة طاولتي الحجريّة. للشحرور وحده حرّية الدخول إلى عالمي الصباحي، ولا يطيل الجلوس معي. هو مثلي يعرف معنى الحرية التي لا تقيّم بثمن.

• تحدثتِ في حوار أُجري معك عن مشروع رواية تتخذ من الحرب السورية إطاراً جغرافياً وزمنياً. أي مرحلة بلغ هذا المشروع، وما جديدك؟

- «ما اسمي»... عنوان روايتي عن الطفل السوري الذي يعود بعد سنوات الحرب يبحث عن هويته بين ركام حلب، المدينة المدمّرة. وستكون في المكتبات ابتداء من نوفمبر المقبل بعد حفلة توقيعها في صالون الكتاب الفرنسي في «البيال».