| د. فهد سالم الراشد* |
... لعل القاص السوري أحمد جاسم الحسين، لم يبتعد كثيرا عن مفهوم تخلف بعض الأنظمة التي تمارس المركزية والهيمنة والاستعباد؛ وربما لامس جرح المثقف العربي والمسلم الذي يعاني من التبعية الفكرية والانقياد والإذعان لموجات الطبول والدفوف، وللشعارات المزيفة التي يتمترس بها صغار القوم من أجل تحقيق مكاسب شخصية، ترى ذلك واضحا في قصة «غباء» يقول «سأل راعي القطيع أغنامه: من ربكم؟ أشارت الأغنام إلى السماء! ضحك كثيرا وهو يقص رؤوسها... يبدو أنك لا تستحقين الحياة أيتها القطعان الغبية» ص21 .
ونرى تكميم الأفواه وخنق حرية التعبير والقمع في قصة «هجرة» يقول «أمي... أمي... لماذا تهاجر السنونو كل عام؟ ابتسمت: لأنها تملك وطنا آخر؟: لماذا لا نملك...؟ لطمتني تلفت إلى الشبابيك هل هي مغلقة» ص23.
ثم يعود الأديب السوري من الكل إلى الجزء بمهارة لا نظير لها تنم عن قدرة وتمكن؛ فأفكاره حاضرة، والألفاظ طوع يديه يوظفها كيفما شاء، لقد تطرق إلى آفة اجتماعية نموذج للرجل الانتهازي الذي يصل على أكتاف ثروة زوجته دونما حب لهذا العقد المقدس؛ ففي قصة «مزاح» يقول الأديب السوري: «فقد صبره فصاح: سأطلقك! أجابت بهدوء استفزازي: سأسحب الوكالة والـ ...! ابتسم لها وقبّل رأسها: هل تصدقين يا حبيبتي أنني من الممكن أن أطلقك... أنا أمزح» ص57 .
وبمعالجة درامية ذات نكهة كوميدية يتألق بها الدكتور أحمد الحسين، حيث يتطرق إلى طمس الإبداع ووأد الكفاءات؛ ففي قصة «فكرة» يقول «خطرت على بال المذيع فكرة طريفة فأراد أن يحولها ريبورتاجا، أخذ الموافقات! فتوجه إلى مجموعة من المواطنين بسؤال واحد: ما معنى الضمير؟ أشار محب إلى قلبه! وشرطي إلى جيبه ويده! وبعضهم إلى حذائه... أحد المسؤولين أشار إلى... قطع البث وسرت في اليوم التالي إشاعات متنوعة حول مصير المذيع» ص58.
ولو انتقلنا إلى المجموعة القصصية الثانية للأديب السوري أحمد جاسم الحسين الذي عنون لها عنوان أحد قصص المجموعة وهو «حب فراتي أو الزعفرانية» هذه المجموعة غلب على طابعها الدراما القصصية ولكنها لم تخل من الكتابة الساخرة.
من منطلق مقولة «السياسة لا توجد بها صداقة دائمة ولا يوجد بها عداء دائم» يجسّد لنا القاص السوري هذا المفهوم في قصة «بجانب حديقة الجاحظ تماما» حيث يقول «وبما أن الأمر يحتاج للوحدة والتعاون ففي اليوم التالي يكون هو مع أخرى وهي مع آخر» ص 10 .
ويتطرق للفساد الإداري الذي استشرى في المجتمعات العربية نستشف ذلك في قصة «حمام وأعشاش وذكريات» يقول «حسين ابن أم حسين؛ رموا سرّته بالجامع صار شيخا... ! علي ابن أم صالح رموا سرّته بالمدرسة صار أستاذا... ! توفيق رموا سرّته بالمخفر صار شرطيا وعنده ثلاث سيارات وأربعة بيوت» ص22.
كما نجد في قصة «عصا الطرافة» صورة لمجتمع متخلف يؤمن بالخرافات والخزعبلات ولا يقيم وزنا لأصحاب العقول والعلم والمعرفة حيث يقول «بصراحة ما كنت أصدق حكاية الهامة، لو ما أني البارحة شفتها بعيني! ران صمت مفاجئ على الحاضرين ومطوا أعينهم مستغربين فهم يسمعون بالهامة منذ قرون لكن أحدا لم يرها من قبل! بصراحة يا جماعة كانت كبيرة وشكلها مرعب... ولسانها طويل... ومخالبها حادة... منقارها مثل السيف... وجهها أسود مثل السعالي! وذيلها أطول من ذيل الحنافيش... ! سألتني: الثأر يا عبد الجبار ! أجبتها قاتل أخي في السجن! صاحت: من أولاد عمه... من عشيرته يا حمار! ابتسم بعض الحضور وسرت همهمات... والله ما هان علي أنا الذي قضيت عمري بالدراسة تقول لي الهامة: حمار» ص49 .
كما نلمس نظرة التشاؤم لدى القاص السوري في قصة «بابا نويل» حيث يقول «لوحة ضوئية مكتوب عليها وداعا يا عام الهم 95 ! أهلا بعام الألم 96!» ص62 .
وفي لوحة فنية رائعة يحث القاص السوري على أهمية التسلح بالعلم والمعرفة والسعي الحثيث للحصول على أعلى الشهادات العلمية، وبالوقت ذاته لم يغفل دور الحافز والتشجيع في تحقيق ذلك يقول في قصة «يوم رحل الياسمين»: أمي قالت: لا تنم وحيدا «السعلاة» لن تأتيك إذا حصلت على «الجامعة» ! فرحت!: و»الحنفيش» متى أقدر عليه يا أمي؟: عندما تحصل على الشاهدة العليا... ص 69.
وها هو يبث أنين كل متعلم حرم نفسه من الرفاهية، وأثقلته الديون، وأنهكته صروف الزمن، ولازمته الويلات في سبيل تحصيل العلم ونيل أعلى الشهادات العلمية لخدمة بلده، انتهى به المطاف إلى وظيفة من الوظائف الدنيا إما بائع أو عامل، ولم يشفع له سهر الليالي وهو يدرس الكتاب. وبعد أن تحصل على الشهادة وضعها تحت الوسادة ونام عليها حسرة وقهرا وكمدا. وكأنه يوجه نداء إلى من بيده القرار لإنصاف هذه الثلة من الكوادر الوطنية والاستفادة منها والاعتناء بها. تعال معي لنتحسس أنين القاص السوري أحمد جاسم الحسين في قصة «الورد والحريق» يقول: «حين كبرت عملت أيضا في الزبداني، كان هذا في ريعان الشباب قبل اكتشاف زيف الشعارات الكبرى التي كانت تملأ حياتي- لا بد أن أنفصل عن أهلي- وعملت ناطور بناء... عملت في تعبئة الإسمنت ! يومها تشققت يداي وانهمر الدم، ولم يكن لصاحب العمل قلب يرأف بي، بل كان يتابع تناول إفطاره وكأن دما لم ينهمر! وحين أتذكر عملي هذا أبتسم، فوالدتي لم تعيرني به بل كانت تعيرني دوما بعملي في بيع البطيخ الأحمر- أو تخرجي من الجامعة - وكانت تردد دائما: الناس صارت شرطة وضباطا وعساكر ومخابرات وبيوت وسيارات! وابني درس... درس ورجع بياع بطيخ؟ يا خيبتك بابنك يا... يا حيف الحليب اللي رضعته؟ لو أرضعته لحمار كان صار بني آدم متعلم يدبر رأسه» ص77.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]