أصبوحة / قصة داوود «2 من 2»

1 يناير 1970 07:09 ص
لم يكن من السهل نقل تمثال داوود، رائعة مايكل أنجلو، من الورشة الى ساحة بيازا ديل سنيوريا، مركز مدينة فلورنسا الحضاري، فالتمثال ضخم يبلغ خمسة أمتار طولاً، منحوت ببراعة لا تماثلها براعة عبر تاريخ فن النحت.
كان نقل التمثال الضخم، مهمة صعبة، خاصة أثناء مروره في أزقة فلورنسا الضيقة، لكن مايكل أنجلو وبعض أصدقائه العباقرة، بنوا حوله قلعة صغيرة، وحبالا ورافعات لهذا الغرض، واستغرقت رحلة داوود أربعة أيام، ولكي يتجنبوا أعمال التخريب من قبل المتطرفين، حرس التمثال ليلاً ونهاراً، وعلى مدار الساعة، بواسطة حرس خاص، ومع ذلك تعرض التمثال الى قذف الحجارة، من قبل بعض الصبيان الذين تم تحريضهم، ولكن السلطات سجنتهم لعدم احترامهم للفن.
وفي الثامن من يونيو عام 1504م، وصل «العملاق» كما أطلق عليه الفلورنسيون، أعتاب ساحة سنيوريا، لكنه لم يرفع على قاعدته الرخامية، ويعرض أمام الشعب الفلورنسي، حتى الثامن من سبتمبر في العام نفسه، وفي احتفال ضخم تجمع الجمهور في الساحة، مذهولين من الجمال العاري، الذي لا يشبه شيئاً رؤوه في السابق، وكان التمثال ذو النظرة الواثقة والحازمة حتى ذلك الوقت، يربط مع قصة داوود في الانجيل، كانت تلك النظرة تمثل قوته البدنية والأخلاقية.
ولكنه لاحقاً جسد في خيال الفلورنسيين، نموذجاً للفضيلة الحضارية، وتحذيراً لأعداء الحرية، وأكد الأكاديميون بالاجماع على القيمة الحضارية لداوود، وربط البعض بينه وبين أفكار دانتي، والبعض بأفكار أفلاطونية، ولكن معظم الأفكار كانت تصب على ما يمثله داوود النبي، المدافع عن الايمان والعدالة، اضافة الى ما يمثله هرقل، من القوة البدنية والذكاء.
لكن بعد محاولات التخريب، التي حرض عليها المتخلفون والمتعصبون، في عام 1527م، أخذ الدوق كوزيمو على عاتقه مهمة اصلاحه عام 1543م، اخذا بالاعتبار الأهمية الكبرى للتمثال بالنسبة الشعب، وقد يبدو غريباً أن العاهل الذي اضعف قوة المؤسسات الديموقراطية للجمهورية، وحتى بانعكاساتها الفنية، يهتم بترميم التمثال، كما تحدث بتقدير عن مايكل أنجلو وكل الفنانين والمفكرين، لكنه كما قيل كان يمارس استراتيجية سياسية منافقة، بسبب سطوة الفن وتأثيره على شعب الجمهورية الفلورنسية، اذ لا يمكنه ايقاف عجلة التقدم والتاريخ، ومن ذلك الوقت تمت الاشادة بتمثال هرقل وبقية التماثيل، حتى أن كوزيمو قام بنفسه بمقارنة عمل حكومته، بالجهد المبذول في نحت الأبطال الأسطوريين، ولم يعمد أو يجرؤ على ابعاد داوود وما يمثله من مبادئ حضارية، من المكان الذي اتخذه سكناً خاصاً له لاحقاً، بل نصب نفسه كمصلح للتنمية، ولثقافة وحضارة السلام، ولكنه في نفس الوقت أعاد توزيع التماثيل قرب داوود، حتى يقلل من قيمته المؤرقة له.
بعد تعرض التمثال لعوامل الطبيعة على مر القرون، وفي منتصف القرن الثامن عشر، لوحظ تأثر رخام تمثال داوود، فتقرر نقل التمثال الى أكاديميا دللا بيلي آرت، في عام 1882م، حيث كان المكان مغطى، بمبنى من طراز عصر النهضة، وتم تكليف أحد الفنانين، بصنع نسخة مشابهة لكي توضع مكان داوود الأصلي، لكن لم يحظ تمثال آخر منسوخ بما حظي به هذا التمثال.
وعلى الرغم من أجواء التحضر والديموقراطية، التي سادت عبر العصور، الا أن عقلية الجهل والتخلف والتخريب، ظلت موجودة عن بعض الشاذين، ففي عام 1991م، قام مهووس بمهاجمة التمثال بمطرقة، وكسر الاصبع الكبير للقدم اليسرى للتمثال، ولولا سطوة الفن، لما حمل معه كل هذا الحب وهذه الكراهية والخوف.
لكن أثبت التاريخ، فيما لا يدع مجالاً للشك، أنه مهما طالت عصور الظلام، ومحاربة الديموقراطية، والجمال والفرح الانساني، سيأتي يوم قريب بمقياس التاريخ البشري، يجرف فيه القبح والتخلف، ولن يبقى غير التقدم وحلم البشرية بالسعادة والرخاء.
[email protected]
www.alrujaibcenter.com
www.osboha.blogspot.com