خواطر تقرع الأجراس

الكتاب... زينة رفوف أم زينة عقول؟

1 يناير 1970 12:59 ص
أعزُّ مكان في الدّنا سرجُ سابحٍ

وخير جليس في الأنام كتابُ.

هكذا تكلم المتنبي. وقارئ التراث العربي في مصادره الكبرى يدهشه مدى احتفاء العربي والمسلم في تلك العصور باقتناء الكتاب، وقراءته.

ومن يرجع إلى كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب، الفصل 7، للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، وكتاب: الحضارة الإسلامية في القرن 4هــ، ج 1، الفصل 12، للمستشرق الألماني آدم ميتز، يجدْ توثيقات مذهلة عن المكتبات العامة والخاصة في البلاد العربية والإسلامية، مع موازنات مضحكة بينها وبين مكتبات أوروبا في الفترة ذاتها.

يقول ميتز: «كان في مكتبة الكاتدرائية بمدينة كُنْستانز في القرن 9م 356 كتاباً، وفي مكتبة دير البندكْتيّين عام 1032م ما يزيد على المئة بقليل، وفي خزانة كتب الكاتدرائية في مدينة بامبرج سنة 1130م 96 كتاباً فقط!

كان الكتاب، اقتناءً وقراءةً، رفيق العربي والمسلم، على مختلف الطبقات الرسمية والشعبية. والمشهور عن الصاحب بن عباد أنه كان يصحب معه في رحلاته حِمْل 30 جملاً من الكتب، فلما اقتنى موسوعة الأغاني للأصفهاني استغنى عنها، واقتصر على»الأغاني«.

ولا يخلو الأمر، قديماً وحديثاً، من وجود أشخاص»مرضى كتب«! يقتنون الكتاب للزينة والمباهاة الاجتماعية؛ زينة للمنزل والمنزلة،لا زينة للعقل والمعرفة.

روى الحضرمي عن حادثة وقعت له في سوق باعة الكتب بقرطبة فقال:»لازمت سوق كتبها مدة، أترقّب وقوع كتابٍ كان لي بطلبه اعتناءٌ، إلى أن وجدته. وهو بخط جيد، ففرحت به أشد الفرح، وجعلت أزيد في ثمنه (لاحظ: الكتاب يباع بالمزاد العلني كسلعة ثمينة!)، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: ياهذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب؟! فأراني شخصاً عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعزّ الله سيدنا، إنْ كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغتْ به الزيادة بيننا فوق حدّه. فقال لي: لا أدري ما فيه! ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمّل بها بين أعيان البلد(!) وبقي فيها موضعٌ يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جيد التجليد استحسنته، ولم أُبالِ بما أزيد فيه... «فقلت لنفسي لك حكمتك يا ربي، تعطي البندق لمن لا نواجذ له».

ما موقع الكتاب الثقافي اليوم عند الأجيال الشابة؟ كثيرمن المقررات الجامعية صارت «نوطة» قزمة، أو كرّاسة عجفاء. وقليل منهم مَن يقتني كتاباً (جاداً) للتثقيف.

صار الكتاب هاتفاً نقّالاً للدردشات، ولتبادل الصور والنكات... ولمآرب أخرى في ملتقى العشاق! وقد يقتنيه «مريض كتب» ثري مالياً، فقير فكرياً، ليسد به ثغرة في رف مكتبته.

سامحْهم يا متنبي؛ فلو عشتَ في عصرنا لقلتَ:

أعزُّ مكان في الدّنا ملتقى الهوى

وخير جليس في الأنام... موبايلُ

الأمة التي لا تقرأ قراءة حضارية شاملة تتحنّط تماثيلَ شمعٍ في كهوف التاريخ، كهوف ذات مدخلٍ... بلا مخرج !

* شاعر وناقد سوري