مثقفون بلا حدود

«كبرت يا أمي»... قصة تربوية (2 من 2)

1 يناير 1970 09:51 ص
العقد الآنية ولحظات التنوير

لا أقول تشابك الأحداث فالقاصة التونسية فتحية شويخة، لم تلجأ إلى تشابك الأحداث، بل تصنع العقدة الأولى وتحلـّها، ثم تضع لك العقدة الثانية وتقوم بفكـّها، وهكذا... لذا لجأت القاصة بذكاء خارق لشد القارئ إليها، فاختلقت له عقدة سريعة محاولة جذبه لمتابعة السرد، محققة بذلك روح التفاعل مع انفعالات شخوص القصة، وتكون بذلك قد ضربت عصفورين بحجر واحد:

أولا: عنصر التشويق في القصة من خلال الانسجام والتناغم بين الأحداث «العقد».

الثاني: مبدأ التكافل والتعاون الأسري؛ فحين أخذ «أحمد» الصغير يعبث بدواء الجدة متجرعا جزءا منه «وقد جحظت عيناه واصفر وجهه وتلاحقت أنفاسه» ص 15، استنجدت الأم بابنها وائل، أو بالأحرى بحصالة نقود وائل التي كان يدخرها لشراء العصفور مقتِّرا على نفسه، حارما نفسه من ملذات سنه، فوقف وائل وقفة رجل مسؤول وكسر الحصالة وأخذ النقود ليسعف أخاه وكان قلقا جدا على أخيه، وبعد انتهاء هذه العقدة والاطمئنان على أحمد الصغير من الطبيب المعالج، كان وائل مزهوًّا بهذا الفعل الرجولي وهذه المشاركة الفعـّالة في المنزل، ولم يأبه لنقوده التي ادخرها وصُرفت على أخيه في لحظة. ولعل القاصة فتحية أرادت أن تثبت مهارتها بفن القصة فصنعت لنا ثلاث عقد آنية ولحظات تنويرها سريعة، بعد الإيقاع التربوي الاجتماعي الهادئ الذي اتبعته القاصة في بداية القصة، فجأة وكأنها تقول للقارئ استيقظ وتابع. العقدة الأولى ما أصاب أحمد جرّاء شربه لدواء الجدة، والعقدة الثانية الأب الذي ذهب إلى الصيد- ظنا- مع أصدقائه «وقد تكون غضبا من أبي الذي هو الآن يطارد الحجلة والأرانب البرية في مرح مع أصدقائه»ص 20 ، والعقدة الثالثة «ركبنا السيارة عازمين على البحث عن صيدلية ولكن وما إن أدارت أمي مفتاح الوصل حتى زمجرت سيارتنا واهتزت ثم سكنت سكون الموت» ص22. هذه العقد الآنية ولحظات تنويرها السريعة، لجأت إليها القاصة فتحية، بمهارة فائقة تنم عن دربة وممارسة بالعمل الفني القصصي وتقنياته؛ فجاءت لحظات التنوير أيضا ذات إيقاع سريع ومتلاحق، فأحمد الصغير اجتاز الأزمة والأب لم يذهب إلى الصيد بل حضر مع صديقه «خالد» الذي أصلح أمر السيارة، وعادت الأمور في القصة بذات الهدوء الاجتماعي التربوي، ولا حظ معي ما أجمل هذه العبارة التي نقشتها القاصة وجاءت على لسان «وائل»: «في هذا اليوم أدركت معاني كثيرة كنت بالأمس أجهلها فإن كان المال عدة الأيام الصعبة وتصديا لتلاعب الأقدار إلا أنه أبدا لا يصنع السعادة، فالسعادة الحقة هي أن تعيش معافى، مرتاح البال، محبا ومحبوبا» ص 34.

- العصفور: هو العقدة الذهنية التي لعبت على أوتارها القاصة فتحية من بداية القصة، فليس من المعقول أو المستساغ في هذه القصة التربوية عدم اقتناء «وائل» للعصفور؛ لذا كان لابد للعصفور أن يأتي لوائل كهدية على وقفته ورجولته وشهامته مع وعكة أخيه «أحمد الصغير»، وقد كان؛ فليست الرجولة بسؤال يُطرحُ ويُردُّ عليه بالإيجاب، إنما الرجولة مواقف تلقائية، جاء العصفور لوائل هدية من الأب وهنا تعود العقدة الذهنية مرة أخرى وتسجل هذه الحذاقة والمهارة القصصية للقاصة فتحية، ومرة أخرى تلتف القاصة حول العقدة الذهنية؛ فهي لا تريد من القارئ أن ينسى هذه العقدة؛ بل تحاول أن تربط ذهنه وتذكره بها على لسان وائل»... لست أدري أي يد هذه التي أبدعت في صنعه وجعلت فيه ما به يقدر العصفور على نسيان حريته و وطنه و رفقه» ص 37 .

ولا حظ معي هذه العبارة على لسان وائل- أيضا- وهو يحاكي العصفور» حتما سينسى وطنه وإن كانت الأوطان لا تنسى كما يقول بعض الكبار دائما « ص 38 .

وبعد هذا الحسّ الوطني الذي لمسناه عند القاصة على لسان بطل قصتها، تنتقل إلى أسلوب التنظير في عالم الرجال فتقول على لسان الأم « وذاك طبع الرجال يا ولدي... إنهم يريدون أن يتراءوا أقوياء وإن كانوا في الحقيقة في أشد حالات الضعف لمرض ألم بهم ، أو لإرهاق أضناهم، أو لحزن ملأ قلوبهم» ص 40.

ثم تعود القاصة لتختلق عدة عقد هشة ضعيفة استخدمتها لفضول سؤال الأبناء واستفساراتهم، فهذا التصوير الدقيق لم يأت من فراغ، بل القاصة تعمقت في أغوار نفسية الأبناء وصورت خلجاتهم التي تطفو على سطح الواقع كلما شعروا بالارتياح مع من يرافقهم ويتحدث معهم، فحين تساءل وائل عدة أسئلة وجد الأم تبرر هذه الأسئلة بإجابات حكيمة واعية ناضجة توطد علاقة الابن بأبيه «يومها، لم يخرج في رحلة صيد ولا كان يستمتع بمطاردة الأرانب البرية بل كان قد قصد سوقا تباع فيه العصافير» ص 42 «وبينما كان يتجول باحثا عن عصفور ليفاجئك به... عصفور جميل غرّيد وغير باهظ، فجأة زلت رجله وفقد توازنه فسقط على الأرض» ص 42. «هاتفه؟... لقد سرق منه أثناء انشغاله بلملمة حاله ولم يسترجعه إلا بعد عناء» ص 43.

وتمتطي القاصة فتحية، صهوة الفلسفة الاجتماعية حينما سأل وائل أمه وكان الحديث يدور عن الأب»... ولكن ما الذي يجعله يظلمك أحيانا؟... لماذا يخاصمك؟... ألم يبكك مرارا» ص 44... «لا إنه لم يظلمني ولم يخاصمني، فقط هو الاختلاف في الرأي... اختلاف لا بد له أن يكون فالإنسان لا يتطابق إلا مع نفسه ولا يتساوى إلا معها هو قانون الوجود وحكمة الإله... الأنفس تختلف كما تختلف الأجساد... لكل منا رؤيته ولكل منا طريقته في تحليل الأمور... لكل منا أحلامه وأحكامه. ولكننا نحاول التقريب من مواقفنا والتقليل من اختلافاتنا... إننا يا عزيزي نفترق لنلتقي ونتخاصم لنتصالح فلا غنى لأحدنا عن الآخر» ص 45.

وهذه المرة تتوارى شخصية القاصة فتحية وراء العصفور «تيتي»، وتنثر أفكارها التربوية التعليمية، حينما تعثر وائل في مادة الحساب، وتخيل العصفور «تيتي» يردُّ عليه محفزا «فالإنسان الجدير بالاحترام، يتقدم ولا يتأخر وإن حدث أن زلت به قدمه فسرعان ما ينهض بل ويقفز نحو الأعلى . العيب ليس في أن نفشل وإنما العيب في أن نظل خائبين فاشلين على الدوام» ص 55. وأضرب مثلا مدللا على ما ذكرته القاصة ومحفزا الأبناء وأذكر لهم قصة «النملة» التي تحمل حبة القمح وتصعد بها إلى بيتها وهي تكابد وعورة الطريق، وتسقط المرة تلو الأخرى حتى تنجح في حمل حبة القمح إلى بيتها لتؤمن مستقبل معيشتها في الشتاء.

وبطريقة ذكية من القاصة فتحية، توظّف العصفور لإعلاء مرتبة العلم والنصيحة المهذبة للتلاميذ، فها هو العصفور يرفض صداقة وائل لأنه أخفق في مادة الحساب فيقول له «ليس صديقا لي من لا يصادق العلم والمعرفة. العلم يلبسك تاج الشرف فتكون به مصانا، مهابا محترما. العلم .. به تتجمل وبه ترتفع إلى الأعلى... إلى الكمال» ص 56 . كيف لا وقد قال الشاعر: «ليس الجمال بأثواب تزيننا... إن الجمال جمال العلم والأدب».

وبعد أن تجاوز السرد القصصي النصف تقريبا عادت القاصة فتحية إلى العقدة الذهنية مرة أخرى لتسلسل أحداث قصتها، ولكي لا ينفرط منها عقد الحبكة القصصية، فها هو العصفور «تيتي» يتوقف عن الطعام حينما شاهد سربا من العصافير تحلق في الجو فرحة بحريتها، الأمر الذي حيّر «وائل»، والأمر الذي أذهله حينما بدأ العصفور «تيتي» «يقفز هنا وهناك داخل القفص... إنه يضرب برأسه على الأسلاك وكأنه يبحث عن منفذ... إنه ينتفض انتفاضة مظلوم، مقهور يروم الإفلات من قبضة متسلط جبار» ص 69. نعم إنها الحرية؛ ما أروعك أيتها القاصة فتحية حينما تسوقين هذه المحاورة بين شخوص القصة:

- آه يا ولدي... لقد اشتاق «تيتي» إلى الحرية... إلى الطيران في الفضاء الرحب.

- أيّ حرية هذه؟ أو يغادر قفصا أنيقا ليرتمي في المجهول؟... يقطع المسافات الطويلة بحثا عن دود أو حب هزيل؟

- إن الحرية يا ولدي لهي قدر العصفور، ولا يمكن لأجمل أقفاص العالم أن تعوضها له.

- لقد صنعت له سعادة ما كان ليحلم بها لو كان حرّا طليقا.

- سعادة؟ أبدا يا حبيبي لا يمكن أن نصنع سعادة ولا أن نهدي الآخرين فرحة ولا أن نرسم لهم أحلامهم... أرأيت «تيتي» وقد أعرض عن أغلى المكسرات؟ ذلك لأن الحرية عنده أفضل من أفخر مأدبة! الحرية قبل الخبز وقبل القمح وقبل البندق أيضا! ص 73.

هذا البعد هو ما استشرفته القاصة!

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]