مثقفون بلا حدود

مسلسل «سمرقند» في مرمى النقد (3 من 3)

1 يناير 1970 09:59 ص
في الختام: أنا لا أتحدث عن ممثلين؛ فمنهم نجوم لسنا ممن يقيّمهم، وفيهم مبتدئون أجادوا وأتقنوا وتألقوا وسوف يصبحون مشروع نجوم في المستقبل، ولكنني أتحدث عن أدوار وسياقات (أحداث) ينتجها المخرج قائد العمل الفني. التي لم تكن مقنعة البتة؛ ففي ملاحظاتي العامة:

كان الأولى أن يطلق على هذه المسلسل «أصفهان» أو «جواري أصفهان» فقصص الجاريات في هذا المسلسل قد طغت على أحداثه الجسام، بدلا من تسميته بـ «سمرقند» حيث إن جل الأحداث قد دارت في أصفهان بيت الملك والحكم.

عرض السياقات الأربعة قبل اتحادها في كل حلقة هذا الضغط أثر على سير الأحداث وعلى الانتقاص من أبعاد الشخصيات؛ عدا الحلقة السابعة التي لم يعرض فيها السياق الثاني، مما خلق تمددا في السرد الدرامي، التناحر بين الملكتين الضرتين استهلك المسلسل كثيرا، وانعكس سلبا على سير بقية الأحداث.

بعض الشخصيات قلدت وتقمصت أدوارا لممثلين أجانب: شخصية (زورو الذي جسدها الممثل انتونيو بانديراس)، شخصية (جاك سبارو الذي جسدها الممثل جوني ديب) بالإضافة إلى حركات ونظرات الممثل ستيفن سيغال، علما بأن تراثنا غني بالكاركترات فلسنا بحاجة إلى استعارة كاركتر أجنبي.

أيضا ديكور سوق أصفان لم يكن بمستوى دولة السلاجقة فقد خلا من الخلفيات والمؤثرات الحقيقية. ووقوف الشرطي شاهرا سيفه في وسطه قائلا أنا جابر أنا قوي، وكأننا نشاهد مسلسلات الأطفال مصباح علاء الدين أو مسلسل علي بابا والأربعين حرامي أو رحلة السندباد، ملابس ولي العهد محمود كانت جد متواضعة.

الصرامة وقوة الكلمة والدهاء والمكر والمكائد والمباغتة والتنظيم والإدارة وما يرافقها من مؤثرات صوتية، كل ذلك شبه مفقودة في مسلسل سمرقند أو لم يكن بالمستوى المطلوب، والفنان فهد عابد يعرف ذلك جيدا، من خلال دوره في مسلسل الزير سالم في العصر الجاهلي، ومن خلال دوره في الحجاج بن يوسف الثقفي.

كذلك الأحاسيس والمشاعر والوجدانيات وحديث النفس كل ذلك شبه مفقود في مسلسل سمرقند، والفنان رشيد ملحس يعي ذلك جيدا من خلال دوره في مسلسل امرئ القيس أو مسلسل ذي قار الذي قبله.

أين التكتيك العسكري والتكنيك النفسي في استرداد سمرقند، لقد غابت المواجهة بين الطرفين - لاسيما - وأن أتباع خادم الإمام يفترض بهم أنهم يحاربون عن عقيدة، كذلك لم نر السجالات التي عادة تسبق الحروب.

الانفعالات والتفاعلات: نحن - العرب - كرهنا حتى في الأمور السياسية أن نوضع أمام الأمر الواقع، نريد أن نطـّلع على مجريات الأمور وكيف تدار لإبداء الرأي من باب التنفيس أو قل من باب الاستئناس حتى لو لم يؤخذ بهذا الرأي، سئمنا رؤية البطل الذي يتشبث بجذع شجرة من أعلى قمة جبل، ثم بعد ذلك نرى صورته وهو فوق الجبل، لا ندري كيف أنقذ نفسه وما محاولاته لإنقاذ نفسه، كل الذي نعرفه أنه بطل يجوز له ما لا يجوز لغيره وأن المخرج أراد ذلك، حقيقة الانفعالات غابت عن أحداث مسلسل سمرقند، لو أجرينا مقارنة في مستوى الخطاب للحوار الذي دار بين الحجاج بن يوسف الثقفي الذي جسد شخصيته الفنان فهد عابد وأحد فتية الخوارج ومستوى الخطاب الذي دار بين حسن الصباح لفهد عابد وعمر الخيام ليوسف الخال في الحلقة 27 لوجدنا التفاعل مع المستوى الأول كان أكثر، ولو عرضنا رهافة إحساسات امرئ القيس لرشيد ملحس التي ألهبت عواطفنا بالمقارنة مع انفعالاته في سمرقند، لرجحت كفة إحساساته في امرئ القيس.

والعيب هنا ليس في الممثل، بل الضغط على الزمن الفني الذي جعل الأحداث كلها متلاحقة في ثلاث حلقات هي 27 و28 و29 أربك الممثلين وانعكس ذلك على أدائهم، كذلك تشابك الأحداث جاءت في ثلاث حلقات الأمر الذي جعل من لحظات التنوير ضبابية وغير مقنعة، خطف الملك باركي وأسره، ثم في لحظة يحرر من الأسر، تارة يبقي على أخيه ولي العهد المزعوم محمود، ثم يخطف محمود، هذه هي الأحداث الجسام في المسلسل وهي أيضا رسالة المخرج لنا قدمها بطريقة تمثيل مدرسي يخلو من التقنية والحرفية والمؤثرات الفنية والفزع المعرفي، وبذلك يكون قد ظلم هذا المنجز الأدبي الرائع في المرئي والمسموع.

أريد فقط أن أحيل القارئ الكريم لمشاهدة فيلم «العائد» ليوناردو دي كابريو، لكي نرى بعد ذلك ما هي الانفعالات وكيف تفاعلنا معها. وكيف نجح المخرج عندما ترك مساحة كافية للممثل لكي يتعامل مع كل عقدة تواجهه ويحاول فكها والاستقواء عليها مستوظفا ملكاته وإبداعاته الفنية.

قد يقول البعض: لماذا لا تحاسب المؤلف على هذه الثغرات؟ نقول له نحن نحاسب المؤلف على العمل المكتوب، أما إذا انتقل هذا العمل المكتوب إلى عمل مرئي ومسموع يكون قد انتقل من عهدة الكاتب وأصبح في عهدة المخرج فلا يحق للكاتب أن يتدخل في عمل المخرج وإلا نعت المخرج بضعيف الشخصية وفشل عمله، علاوة على أن مخرج مسلسل «سمرقند» صرح أكثر من مرة وفي أكثر من موقع بأن أحداث هذا العمل افتراضية لا دخل لها بالتاريخ. هنا ارتأيت ارتئاء المشاهد المتذوق أن أشير على المخرج بالأحداث التي أراها: لو جعل حسن الصباح ينقذ نرمين وجعل نرمين تقع في حب عمر الخيام وتكون بين قطبين الأول يمثل قوى الشر وله فضل عليها بإنقاذها والآخر يمثل قوى الخير وقد وقعت في عشقه، كيف ستدار الإحداث إذن. ولو ترك الجارية روعة المتألقة تخبر القصر برؤيتها للأميرة آتون في سوق النخاسة، ثم قامت الملكة تركان بتجنيد فريق من الجواري للبحث عنها إما بقيادة الجارية روعة أو الجارية نرمين، لتحقق للمخرج عنصر الجذب والتشويق والمتابعة. لو تريث المخرج قليلا وجعل المسلسل من تسعين حلقة موزعة على ثلاثة أجزاء يعرض لمدة ثلاث سنوات لخلق مناخ مريح للإبداع، وأسهم في تثقيف أكبر عدد ممكن من المشاهدين، واستطاع أن يوصل رسالته، ويؤتي أكله.

عجباً ممن ارتكض وراء تقييم المسلسلات الرمضانية بمجرد أن شاهد حلقة أو حلقتين أو حتى عشر حلقات! ويكون بذلك قد حرق نفسه وأساء للمسلسل.

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]