| د. فهد سالم الراشد* |
تحدثنا في الأسبوع الفائت عن السياق الأول، وفي هذا الأسبوع سنتحدث عن بقية السياقات:
السياق الثاني: الفنان يوسف الخال- عمر الخيام فنان مقتدر وحضور لامع ولغة راقية عالية المستوى، ولكن أيضا دوره لم يكن مقنعا مقارنة بشخصية عمر الخيام. كذلك نرى المخرج قد قفز على الأحداث، وجعل له الصبي رمزا للحظ، ومثله لا يحتاج إلى هذا الحظ، ولا يأتي إلى المدينة لمقابلة الملك بطريقة عابر سبيل، يهان ويسرق ويتجاهل. وبالنظر إلى نتاج عمر الخيام الأدبي والفلسفي والعلمي، نرى أن المخرج قد فرّغ هذه الشخصية من محتواها المعرفي ومضمونها العلمي والأدبي. ففي الحلقة العاشرة يعترض عمر الخيام على جملة (تصبحون على خير) ويستبدلها بـ (إلى اللقاء)، مفسرا ذلك بأنه ما أدرانا بأننا سوف نستيقظ من النوم الذي يعد الميتة الصغرى. ونحن نقول: إن جملة تصبحون على خير، هي دعاء، مثلما نقول يعطيك العافية أو يعطيك الصحة. فمعلوم لدينا أننا نشير هنا إلى الخالق عز وجل.
وفي الحلقة 13، يسوق لنا وجهة نظر أفلاطون في تقسيم الإنسان الذي شبهه بالحصان، بعيدا كل البعد عمّا سألته الجارية، ولكن هل هذا كل ما في شخصية عمر الخيام التي عرفت بالصرامة المنهجية والعرامة المعرفية؟ في الحلقة 14 انضم هذا السياق إلى السياق الأول فعلياً. وإلى الحلقة 17 لم نشاهد شيئا يذكر من التبادل المعرفي والعلاقات الفكرية في شخصية عمر الخيام سوى عشق الجواري به ومعاقرة الخمر.
ويؤخذ على المخرج أنه أسقط هيبة هذه الشخصية العلمية والأدبية البارزة. لدي ملحوظة صغيرة في ما يتعلق بعلاقة الحب من طرف واحد بين الجارية (نرمين) والعالم (عمر الخيام)، بدءا من الحلقة 15، أرى أن ثمة خللاً في تراكيب الأحداث... عمر الخيام ليس في ذهنه النساء أو عشق النساء له؛ فما بالك لو كانت جارية، إن الامرأة التي تشد عمر الخيام إليها من مئات النساء اللاتي يتهافتن عليه، ينبغي لها أن تكون صعبة المراس لها فكرها وفلسفتها في الحياة - حتى وإن كانت جارية - ففي النهاية هي إنسانة ليس ذنبها أن كانت جارية، هذه الامرأة سوف تسبب له صراعا نفسيا كبيرا بين عزوفه عن النساء وإخلاصه لعمله، وبين قلبه العاشق الذي أعجب لأول مرة في امرأة من نوع خاص وعقله المفكر في مكنونات وأسرار الكون. وأيضا سوف يحدث ضجة في المسلسل ويكون عنصرا التشويق والجذب أقوى من (15) الحلقة الأولى.
السياق الثالث: الفنان فهد عابد - حسن الصباح لم يكن دوره مقنعا، وإن أجاد تمثيله، وأتقن تقمص الشخصية المسندة إليه، فهذا ليس بغريب على فهد، فهو قامة فنية شاهقة، وعلامة بارزة في تجسيد الأدوار التاريخية، ولعله ما زال يحمل معه في مسلسل «سمرقند» شيئا من تلك الشخصية الساحرة والآسرة التي قام بها بدور جساس في مسلسل الزير سالم، وشيء من شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي.
هناك ثغرات كثيرة في أبعاد الشخصية التي قام بدورها حسن الصباح، وهناك ضبابية في إسقاطاتها. كذلك هناك قصور في حيثيات الأحداث من مثل كيف كان يخرج من السجن؟! وكيف يقبض عليه ولم يدق عنقه في فترة من أشد الفترات شراسة وقسوة على كرسي الملك؟! كيف دخل إلى قائد الشرطة وقتله؟! ثم إن الدور تنقصه الموضوعية، كما أننا نجد فيه إيدلوجية أحادية تفتقر إلى التنظيم والإدارة والطرح حتى الحلقة 14 كانت شخصية مجهولة الهوية، قائمة على البطش والقتل والسلب، وقطع الطرق، وقليل من الحركات البهلوانية.
كان على المخرج ألا يستخف بعقلية المشاهد ويجعله يقف على الحيثيات الصغيرة والدقيقة في بعض اللوحات الفنية. وحين كشف عن شخصيته في الحلقة 15 لم يقدم شيئا ذا مضمون حتى الحلقة 17، إلا أنه قال عبارة غاية في الأهمية وهي (أنت تفكر بأسلوب اللصوص وأنا أفكر بأسلوب القادة). لعلها كانت إيذانا ببدء المسلسل فعليا.
السياق الرابع: الفنان ركين سعد - الأميرة آتون خاتون قدمت أداء متميزا ومؤثرا وجدانيا إلا أن المخرج أخفق في نتاج هذا السياق بصورة فيها تراخ في حل عقدته، منذ الحلقة الثانية حتى الحلقة العاشرة وهي تدور في الفلك نفسه من الأسر أو قل العبودية، أخفق المخرج في توصيل أو فرض هذه العذابات وهذه الآلام للمشاهد أو على المشاهد، فكل ما قامت به من تمثيل راق ومتألق لم يتأثر به المشاهد أو يتفاعل معه لانصرافه إلى المكان الذي تكون فيه الفنانة أمل بوشوشة، لذا نرى أن المخرج ظلمها في هذا التراخي. والأكثر من ذلك حينما اتحد هذا السياق مع السياق الثالث لحلقتين اثنتين فقط بطريقة هروب فاترة غير مقنعة، وتألقت أكثر في تجسيد دورها وتقمص الشخصية المسندة إليها بعد أن دخلت القصر- خصوصا- حينما قابلت حسن الصباح في الحلقة العشرين داخل القصر.
الآن وبعد أن اتحدت كل السياقات جاءت الحلقة 18 لتعرض ثيمة المسلسل- ولاسيما- بعد الحوار الثلاثي المميز بين حسن الصباح وعمر الخيام ونظام الملك؛ وللعلم فقط فإن الأريحية جعلت مستوى هذا الحوار راقيا ومؤثرا، أنا لن أتحدث عن الـ 12 حلقة المتبقية، ولكن هل تكفي الحلقات المتبقية لبلورة ثيمة المسلسل؟ أشك في ذلك. لاحظوا الخلل في التوزيع ماذا أحدث، غدت أحداثه تقفز قفزا، وأصبح المسلسل تقريريا يعتمد على توصيات (نعمل مدارس، نسقط المكوس والضرائب، مصاهرة الخليفة العباسي، استحلال سمرقند ثم إعادة السيطرة عليها في حلقة واحدة، الطمع في الخلافة العباسية، صراع الضرتين على ولاية العهد، زواج نرمين من عمر الخيام، زواج روعة من علي ابن نظام الملك... إلخ) أين هذا كله في بدايات المسلسل؟ المشاهد يريد أن يعيش مع هذه الأحداث الاجتماعية والسياسية لحظة بلحظة، يريد أن يتفاعل مع انفعالاتها. لماذا هذا الضغط على سير أحداثه الذي أفقده التمثيل المطبوع؟!
يتبع الختام في الأسبوع القادم.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]