أطفال حكموا العالم

بطرس الأكبر... القيصر الصغير / 26

1 يناير 1970 02:06 م
| القاهرة - من نعمات مجدي |
«هل حكم أطفال أو صغار؟» وهل تقلدوا زمام الأمور ومقاليد الحكم في بلدانهم؟
سؤال قد تكون الاجابة عليه لـ «الوهلة الأولى» لا، أو لا نعرف أو قد لكن من ومتى وأين؟
ونحن نقلب في أوراق قديمة جدا أو قديمة فقط، أو حتى حديثة، كانت المفاجآت تتوالى تباعا حيث اتضح أن الكثير من هؤلاء بالفعل حكموا وصالوا وجالوا وأيضا أخطأوا وارتكبوا مخالفات أثرت على شعوبهم.
ونحن نقلب في أوراق مختلفة أتضح أن كثيرا من المجتمعات «شمالية وجنوبية شرقية وغربية» حكمت من خلال أطفال وفتيان وشبان صغار.
وجدنا هذا في الممالك القديمة «مصر والعراق» ووجدناه في العصر الإسلامي ووجدناه في أوروبا وآسيا وغيرهما.
عثرنا على ما يؤكد أن طفلا في السابعة «حكم» وأن أكبر منه بسنوات قليلة قاد بلده وأن من هم في العشرين «كثر» تقلدوا زمام الأمور.
الأمر مع غرابته لا يخلو حتما من الطرائف والعجائب والمواقف الساخنة والمعارك المشتعلة حتى إن هذه الأمور حفرت في ذاكرة الشعوب أو في مجلدات تراثية.
«الراي» قلبت كثيرا في أوراق تراثية وقديمة ومتوسطة وحديثة واقتربت من حكايات غريبة وعجيبة مع أطفال وصغار وشبان حكموا وفي السطور التالية تفاصيل كثيرة.


ومن مصر «في عصور مختلفة» إلى أوروبا في عصر مضى... ومنهما إلى الشرق... حيث روسيا القيصرية... وحيث حاكم... لم يتجاوز عمره 17 عاما... ولكنه كان كبيرا لقبا... وأعمالا.
إنه القيصر الروسي بطرس الأكبر... الذي ولد العام 1672 في موسكو وكان ابنا للقيصر الروسي ألكسيس وزوجته الثانية ناتاليا... أصبح قيصرا على روسيا وهو مازال طفلا صغيرا لم يتجاوز الـ 17 عاما بعد صراع سياسي وعسكري طويل مع أخته حيث تولى «تيودور» الأخ غير الشقيق لكل من بطرس وإيفان وصوفيا.
فحكم بعد وفاة والده... حيث كان هو الابن الأكبر ولكن سرعان ما توفي هو الآخر بعد فترة قصيرة ولم يتول أخوه إيفان الحكم نظرا لصغر سنه الذي لم يتجاوز الـ 14 عاما، بالإضافة إلى مرضه الشديد الذي لا يؤهله للحكم بعد يأس الأطباء من حالته الصحية المتدهورة ما اضطر بطرس الأكبر لتولي الحكم وهو مازال طفلا صغيرا بالرغم من علامات الذكاء والنبوغ التي كان يتمتع بها وشهد له بها معلمه الخاص «فرانسوا ليفور» التي كشف عنها بنبوغه المبكر الذي وجه لصناعة السفن.
ونظرا للحب الكبير الذي حظي به بطرس الأكبر... فقد قاموا بالثورة على أخته «صوفيا» الوصية عليه لصغر سنه وذلك لحماقتها وتأخر أحوال الشعب أثناء وصايتها على الحكم.
وبذلك تم عزل صوفيا وتولى بطرس الأكبر عرش روسيا وهو مازال طفلا لا يعني جيدا كيفية السيطرة على مقاليد الحكم.
ملامح وسمات
كان بطرس الأكبر كما وصفته بعض الكتابات الروسية... طويل القامة يبلغ طوله حوالى مترين، كما كان يتمتع بقوة بنيان، ويحكى عنه أنه كان بذيء اللسان كثير الحركة لا يميل إلى الكسل، وقد شهدت روسيا في عهده طفرة كبيرة في شتى المجالات حيث نقلها من ظلمات القرون الوسطى ووضع قدمها على عتبات الدول الأوروبية المتقدمة في ذلك الوقت مثل بريطانيا وفرنسا والسويد.
وعندما بدأ عهده سافر بطرس إلى العديد من هذه البلدان الأوروبية المقترحة كي يتعلم مظاهر تقدم الحضارة في هذه البلاد وينقلها إلى روسيا وبالفعل تعلم فن البحرية على أصولها بل كان مضرب المثل في احترام قوانين البحر، وتقدم كثيرا في دراسته حتى أصبح ربانا وهي أعلى درجة يحصل عليها من يرتاد البحار.
ولم يقف طموحه عند هذا الحد... بل نال مرتبة مدفعجي في الجيش إلى جانب مركزه الرفيع كقيصر لروسيا... وعندما عاد من رحلته البحرية إلى أوروبا، قام بجمع رجال القيصرية على وجه السرعة دون أن يحصل على راحة كافية من طول الرحلة.
وقد أمرهم بحلاقة الشوارب واللحى وقص الشعر لرجال القيصرية مثلما فعل قبلهم إيذانا بتغيير شكلهم ودخولهم إلى مرحلة جديدة من التغيير والتقدم... والأكثر من ذلك أنه أصدر مرسوما للشعب الروسي بعدم ارتداء الأزياء التقليدية القديمة وسمح لرجال القيصر بارتداء السترات التي عرفت بسترات «ماجيار» وشوهد الروس للمرة الأولى بالجوارب الفرنسية والألمانية... حيث كان يرى القيصر الصغير أن التغيير في الشكل الخارجي بداية لتحقيق التقدم الحضاري والقضاء على الرجعية والتخلف.
النهضة الكبيرة
وبالرغم من النهضة الكبيرة التي شهدتها روسيا في عهده إلا أن سنه الصغيرة وتصرفاته الطفولية كانت تطفو على السطح، فيحكى أن سكان مدينة بطرسبورج استيقظوا مذعورين على انطلاق أصوات إنذار الحريق والخطر وسماع دوي هال لصوت سيارات الإسعاف وهي تجوب المدينة.
خرج الأهالي... في هلع شديد وحدثت حالات كثيرة من الوفاة والإغماء والإصابات من أبناء الشعب المندفعين وهم مذعورون من هذه الصفارات بأحد الميادين، لم يجدوا أي حريق بل وجدوا شعلة كبيرة يحرسها الجنود في منتصف الميدان، وسمعوا صوت القيصر الطفل يطلب من الناس الاطمئنان والسكينة وعدم الانزعاج لأن صفارات الإنذار كانت كاذبة أو هي كما يقولون «كدبة أبريل»، وبكى الناس وسط ضحكات هذا القيصر الطفل.
اهتمام بالجيش
وقد شهدت روسيا حالة من التقدم والرخاء في عهد القيصر بطرس الأكبر وذلك بفضل اهتمامه بتقوية الجيش وخاصة الأسطول البحري وذلك لشغفه منذ صغره بصناعة السفن وكان يقول دائما: إنه لا معنى لوجود إمبراطور بغير أسطول وجيش قوي، وقد تعلم الدرس جيدا... عندما انهزم في السويد أثناء المعارك الأولى بسبب ضعف الأسطول الروسي آنذاك.
ولهذا السبب لجأ إلى الاهتمام بتقوية الجيش وإدخال الصناعات الحديثة من أوروبا المتقدمة إلى روسيا والذي كان له الفضل الأكبر في انتصارات روسيا وتفوقها بعد ذلك.
وفي سبيله لتقوية الجيش قام أيضا بتحسين الطرقات وإنشاء طرق جديدة وتحسين المصانع القديمة لتلبية الاحتياجات المدنية والعسكرية وكان يستخدم المهندسين من دول أوروبا المتقدمة لجلب التكنولوجيا الحديثة إليها ودفع المبالغ الباهظة في رواتبهم.
لم يقتصر نشاطه على الحياة العسكرية، بل المدنية أيضا حتى إنه تدخل بإصلاح أحوال الكنيسة الأرثوذكسية... واتهم رجال الدين بالكسل وعيّن عليهم على رأس الكنيسة علمانيا، وكان ينتقد الغني الذي كان يعين عليه رجال الدين، وقضى على استقلالية الكنيسة وأجبر أعضاء المجمع الكنسي على قسم اليمين أمامه.
العلم والعلماء
كان بطرس الأكبر منذ نعومة أظافره شغوفا بالعلم والعلماء ولم ينقطع يوما عن تلقي المعرفة والحكمة على يد معلمه «فرانسوا ليفور» وكانت مقولته الشهيرة «أنا تلميذ أحتاج إلى معلم» لذا فقد أدرك أهمية العلم والتعلم خاصة بعد زيارته الأولى خارج روسيا لتعلم فنون البحرية بأوروبا.
ونتيجة ذلك اهتمامه الزائد بالتعليم باعتباره القضية الأولى والهدف الأسمى لنقل روسيا من التخلف إلى المدنية الحديثة التي رآها في أوروبا، فقام بإرسال البعثات التعليمية من روسيا إلى أوروبا وكانت كل بعثة عملية مكونة «150 طالبا روسيا» والبعض كان يذهب للاطلاع على التقدم الصناعي بزيارة مصانع هولندا وجامعاتها، بل إلى ألمانيا لتعلم اللغة الألمانية، والبعض الآخر إلى جنوب آسيا والشرق الأوسط لتعلم اللغة العربية.
حتى إنه كان يرسل البعثات إلى إيطاليا وفرنسا لتعلم فن العمارة وفنون البحرية وأكثر من تشغيل الخبراء الأجانب خاصة في الصناعات التي كانت تعاني من التخلف في روسيا مثل السلاح وبناء المشروعات الضخمة، وكان يغدق على هؤلاء الخبراء الأجانب الأموال الكثيرة وكان يرى أنه سوف يعود المبعوثون الروس من الخارج فيحلون محل هؤلاء الأجانب.
بالإضافة إلى أن الفنيين الروس سوف يتعلمون على أيدي هؤلاء الخبراء فينقلون ما يتعلمون إلى روس آخرين.
وهكذا تتقدم روسيا... حيث استفاد بطرس الأكبر من رحلاته لأوروبا أيضا العلم والمعرفة وسعة الأفق حيث أمر بترجمة ألف كتاب علمي وتاريخي وأدبي من الكتب الأجنبية بل إنه لم يكتف بذلك فقط بل كان يعطي إرشادات للمترجمين أنفسهم بأن يقوموا بترجمة النص معنى وليس بالضرورة حرفيا حتى لا تصبح الترجمة بعيدة عن اللغة الروسية ذاتها.
وكان يهتم بالطب وخاصة للعسكريين... فافتتح مستشفى للعسكريين في موسكو وآخر للجراحة... وأنشأ العديد من الصيدليات في جميع مدن روسيا.
ويذكر المؤرخون أن أول جريدة تصدر في روسيا صدرت في عهده وكذلك أول مسرح.
روسيا قوية وغنية
كان بطرس الأكبر... هذا القيصر الصغير يطمح في أن تصبح روسيا قوية وغنية وأن يرفع مستوى الشعب الروسي وذلك من خلال نشر الثورة الصناعية التي عرفتها البلاد في عهده.
وقد كان واضحا أن بطرس الأكبر... كان عالميا لا يفكر في الدين بشكل أساسي فقد كان عقلانيا أكثر من صوفيا وكام يهتم بالحياة الدنيوية وازدهار روسيا ورفعتها اقتصاديا وعسكريا أكثر من اهتمامه بالنواحي الدينية أو بشؤون الكنيسة الأرثوذكسية.
اهتم بطرس الأكبر أو القيصر القائد العسكري الكبير بتكوين جيش قوي وأسطول بحري يمكن روسيا من فرض نفوذها على منطقة البحر الأسود وعلى جيرانها الأوروبيين ولتحقيق غايته قام بإنشاء وإنتاج 50 سفينة حربية و700 مركب دعم، تمكن بفضل هذا الأسطول السيطرة على البلطيق، ومنافسة القوات الأوروبية في الأطلسي.
وقام بزيادة أعداد أفراد الجيش وذلك بفرض التجنيد الإجباري... حيث كان يلزم 20 أسرة بتجنيد شاب منها للخدمة العسكرية حتى وصل تعداد الجيش إلى ربع مليون جندي وكان قائدا عسكريا نموذجيا حيث كان يقضي معظم وقته على الجبهة العسكرية، وقد كانت استراتيجية العسكرية مبنية على إضعاف قوة الدول المجاورة والانقضاض عليها بدءا من السويد وبولونيا وانتهاء بالدولة العثمانية.
معاهدة سلام
وقد أعلن الحرب على السويد... ما أدى إلى اشتعال حرب دامت «20» عاما انتهت بمعاهدة سلام مع روسيا العام 1700 مقابل منح روسيا كلا من أستونيا وليتفيا وساحل البلطيق، كذلك قام بانتزاع موقع وميناء آزوف في شمال شرق البحر المتوسط من أيدي تركيا بعد إلحاق سلسلة من الهزائم بها.
حيث كان ذلك فاتحة لسيطرة روسيا على البحر الأسود الذي حولته إلى بحيرة روسية بعد تنازل تركيا عن أوكرانيا بهولندا وللنمسا عن المجر وترتسلفانيا وذلك طبقا لمعاهدة صلح «فارلوجة» العام 1699.
ويرجع الفضل إلى القيصر بطرس الأكبر في إنشاء منظمة سرية أطلق عليها اسم «بريو براجنسكي بريكازا السوفيتية» ولكنها لم تصمد طويلا بعد وفاته، وهي الأساس الفلسفي لـ «K.G.B» ـ لجنة الأمن الدولية السوفيتية.
اهتمام بالفنون
ولم يقتصر عهد بطرس الأكبر على اهتماماته العسكرية والصناعية والتعليم، بل إنه اهتم بالفنون أيضا فبالرغم من أن روسيا هي أكبر الأمم الأوروبية قاطبة إلا أنها ظلت متخلفة عن اللحاق بركب التطور الأوروبي.
وينسب إلى بطرس الأكبر جملة من الأعمال المهمة في إطار تطوير الثقافة والفنون، فهو الذي قام ببناء مدينة سان بطرسبورج على ضفاف نهر السيفا وازدحمت قصورها من مختلف أرجاء أوروبا بل يقال إنه كان يستأجر لصوصا محترفين لسرقة الأعمال الفنية والقطع الأثرية النادرة وقد شهد فن الأعمال التشكيلية نهضة كبيرة في عهده.
والمعروف أن بطرس الأكبر... قام بنقل عاصمة روسيا من موسكو إلى مدينة سان بطرسبورج وذلك بعد الانتهاء من بنائها في العام 1713.
وقد توفي بطرس الأكبر العام 1725 عن عمر يناهز الـ 53 عاما بعد مرضه الشديد بالحمى التي أصيب بها أثناء سعيه لإنقاذ مجموعة من جنوده من الغرق في نهر جليدي في الفيليبينين.