مثقفون بلا حدود / صورة «الفقير» في الشعر الصوفي

1 يناير 1970 09:58 ص
يستهل الولي الصالح أبو مدين الغوث (شعيب بن حسين الأنصاري، ت 594= 1198)، قصيدته الرائية ببيت مرصع ليوافق عروضه ضربه، وهو بذلك يشنّف أذنيك بجرس موسيقي دافئ. هذا الاستهلال اعتادت عليه العرب في أشعارها جذبا للسامع - ولاسيما - في قصر الممدود (فقراء= فقرا، أمراء= أمرا)، حيث يقول:

مَا لَذَّةُ الْعَيْشِ إِلاَّ صُحْبَةُ الْفُقَرَا

هُمُ السّلاطِينُ وَالسَّادَاتُ وَالأُمَـرَا

ولفظة الفقراء جاءت في المعجم بعدة معان منها: «فـَـقـَرَ: الفـَقـْر والفـُقـْر: ضد الغنى، مثل الضـَّعـْف والضـُّعـْف. والفـُقـْر لغة رديئة. فـَقـُرَ فهو فـَقـير، والجمع فـُقـَراء. والأنثى فقيرة ٌمن نسوة فـَقـَائـِر. وحكى اللحياني: نسوة ٌ فـُقـَراءُ، وقال ابن سيده: ولا أدري كيف هذا». و«الفقير فعيل بمعنى فاعل يقال فقـِر يفـْقـَر من باب تعب إذا قـَلَّ مالـُه. قال ابن السراج: ولم يقولوا فـقـُر أي بالضم استغنوا عنه بافتقر والفقَر بالفتح والضم لغة اسم منه. قالوا في المؤنث فـَقـِيرة وجمعها فـُقـَراء كجمع المذكر ومثله سفيهة وسـُفهاء ولا ثالث لهما ويتعدّى بالهمزة فيقال أفقرته فافتقر.» قال يونس: الفقير أحسن حالا من المسكين. قال: فقلت لأعرابي مرة: أفقير أنت؟ فقال: لا والله بل مسكين؛ فالمسكين أسوأ حالا من الفقير.

ويرى الأصمعي: المسكين أحسن حالا من الفقير. قال تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين...» (التوبة: 60). وفي معجم المصباح المنير، قال الأصمعي: المسكين أحسن حالا من الفقير وهو الوجه لأن الله تعالى قال: «أما السفينة فكانت لمساكين...» (الكهف: 79). وكانت تساوي جملة، وقال عز وجل في حق الفقراء: «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف...» (البقرة: 273). وقال ابن الإعرابي: المسكين هو الفقير وهو الذي لا شيء له فجعلها سواء. قال ابن السكيت: المسكين الذي لا شيء له والفقير الذي له بـُلْغة من العيش. وأبومدين الغوث استخدم لفظ (مسكين) رديفا للفظ (فقير) في العبادات حيث يقول شعرا:

أنا المسكين فـي غفلة

غارق في بحر المعاصي

وقد شاع استعمال لفظة «فقير» للمحتاج دنيويا، كما أطلقت على فقراء الصوفية الذين يبتغون رضا الله وينشدون الآخرة، فجاء شعرا:

مالي سوى فقري إليك وسيلة

بالافتقار إليك فقري أدفع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه

إن كان فضلك عن فقير يمنع

وجاءت كلمة «فقير» لتجمع المعنيين معا في قوله تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد» (فاطر: 15). ويجسدها الولي الصالح أبو مدين الغوث في شعره قائلا:

واللهُ أرحمُ بالفقير إذا أتى

من والديه فإنه غفارُ

ويـُروى عن خالد بن زيد أنه قال: كأن الفقير إنما سـُمـِّي فـَقـِيرا لـِزَمـَانـَةٍ تصيبه مع حاجة شديدة تمنعه الزَّمانـَة من التـّقـَلـَّب في الكسب على نفسه فهذا هو الفقير. وقيل: الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له بعض ما يكفيه؛ قال الأزهري: الفقير أشد حالا عند الشافعي. وقال سيبويه: وقالوا افـْتـَقـَر كما قالوا اشـْتـَدَّ، ولم يقولوا فـَقـُر كما لم يقولوا شـَدُدَ. ولا يستعمل بغير زيادة. وأفـْقـَرَهُ الله من الفـَقـْرِ فافـْتـَقـَرَ. والفقر: الحاجة إلى ما به قوام العيش، والعوز والحاجة.

وفقراء الصوفية لا يقيمون وزنا للمال ولا يعيرون اهتماما لملابسهم، وليسوا مهتمين بأمور الدنيا، ولا يحملون نقطة سوداء في قلوبهم ولا مكان فيها للضغينة .هذا التجرد من الماديات جعل من الصوفي الفقير رمزا في أشعارهم. كما أن أبا مدين الغوث قد اختزل كل ذلك في عجز البيت الأول من قصيدته:

* هُمُ السـَّلاطِينُ وَالسـَّادَاتُ وَالأُمَرَا *

بل كان أكثر دقـّة، وأقيس تحديدا عندما استخدم ثلاثة رموز (سلطان وسيد وأمير). إن أبا مدين الغوث يتكلم عن مجالس علم وعن وعظ وإرشاد بلسان ذوي الخبرة؛ فالفقراء الذين عناهم أبو مدين الغوث، هم الأولياء الصالحون، وهم عباد الله الرابحون، وهم السلاطين بزهدهم في الدنيا والابتعاد عن ملذاتها، والاستغناء عن بهرجتها بعبادة الله تعالى؛ حيث يقول شعرا:

رجاؤك رأس المال عندي وربحه

وزهدي في المخلوق أزكى مكاسبي

ويقول:

لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها

ولا جناها ولا حلي ولا حلل

وهم علماء هذه الأمة؛ فمن يرفض السلطة إنما هو سلطان نفسه؛ والسلطان هو: «الملك أو الوالي. والقوة والقهر. والحجة والبرهان. وفي القرآن الكريم: «لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين» (النمل: 21). إذن فقراء الصوفية وعلماؤها ينشدون ملكا لا يفنى، وملك الأرض فانٍ، فهم يرومون الآخرة، وقوتهم في استغنائهم عن ملك الدنيا، وحجتهم تقهر سلاطين الأرض، وبرهانهم فيما أنعم الله عليهم من كرامات.

أما السيد فهو: «المولى ذو الأتباع والخدم. والمتولي للجماعة، والسيادة هي العظمة والمجد والشرف»، وفقراء الصوفية لهم أتباعهم ومريديهم.

والأمير هو: «من يتولى الإمارة، ومن ولد في بيت الإمارة». وفقراء الصوفية تولوا إمارة الكلام ومنطقه، وحسـّه؛ لأنهم ولدوا في بيت البلاغة والفصاحة المعجزة الخالدة كتاب الله عز وجل، ينهلون من معين لا ينضب. إنهم لا ينظرون إلى مكاسب دنيوية، ولا يتهافتون على المناصب السياسية ولا يلهثون وراء الكراسي الإدارية؛ ففي صحبتهم بركة ورزق من الله عز وجل، وطمأنينة في رحاب القرآن والسنة، وفي صحبتهم فوائد جمة لمجتمع إسلامي قويم، وعلى المؤمن توطين النفس على التقيد بإرشادات هذه الثلة الطيبة الطاهرة من علماء المتفقرة، فإذا كان الفيلسوف يديم النظر طويلا مفكرا مضطربا ويرهق عقله للوصل إلى نتيجة ما يصبو إليها؛ فإن الصوفي المؤمن يصل إلى بغيته بذوقه الرفيع، وبقلبه المتدفق حبا وحنانا وعطفا، إن الغاية والهدف من مصاحبة أولياء الله الصالحين إنما هي لذة يرتشفها جليسهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة».

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]