حوار الذكريات / الممثّل القدير يفتح قلبه لـ «الراي»... ويكشف ما فيه من أحداث ومواقف ومواجع (2 - 3)
صلاح تيزاني: الفنّ ظل هاجسَنا... ولم تكن المصاري فارْقة معنا!
| بيروت - من سامر القلعجي |
1 يناير 1970
07:12 ص
أبي كان ضابطاً في الجيش التركي ورفض التعاون مع الفرنسيين... ثم اضطر إلى العمل في سوق الخضار!
حين لا يتقيّد الممثل بنص ومُخرج... يشعر بأنه حرّ و«يعطي من قلبه»!
ظللنا نرتجل أعمالنا وكان أعضاء فرقتنا يعتمد كل منهم على الآخر... ولم نخطئ مرةً واحدة!
فرقتنا استمرّت 55 عاماً لعدم اعتمادها على شخص واحد... كنا 11 ممثلاً وكلٌّ منهم لديه شخصيته وحضوره
كنتُ أعرض مشاكل الناس في قالب كوميدي... والأفكار تأتي «منها لحالها» وكنتُ أكتبها بنفسي!
كنا وحدنا في ساحة الكوميديا... ولم نستخدم لفظاً بذيئاً ولا سخِرنا من عاهات الناس!
55 عاماً مضتْ على مشواره الفني، وما زال قلبه مشتعلاً بحبّ الفن، ويدغدغه شعور النجاح الذي حقّقه على مستوى العالم العربي. كان مصدر ضحك للآلاف إن لم نقل: للملايين.
«الراي» سعت إلى الممثل اللبناني المخضرم صلاح تيزاني الذي غلبت عليه كنية «أبو سليم»، ليفتح لها قلبه ويكشف لها ما يملؤه من أحداث ومواقف، وما يعتلج في أرجائه من أوجاع مضنية وعتاب قاسٍ... عشق التمثيل منذ نعومة أظافره، وقدم أعمالاً لا تُعد ولا تُحصى حتى أصبح مرجعية في التمثيل اللبناني. لكنه يقول في حسرةٍ ظاهرة إنه نسي «أبو سليم» نفسه، بل صار هذا الاسم/ الأيقونة لا يعني له شيئاً!
اهتمّ بإضحاك الناس وإضفاء السعادة على حياتهم فكان له ما أراد، فليس هناك مَن لم يضحك على يوميات «أبو سليم»، ولم يتفاعل مع مقالب «فهمان»، ومن لم ينتقل إلى عالمهما الخاص وأصبح جزءاً منه؟
حقق أبو سليم هدفه فأضحك الدنيا... لكنها أبكتْه وقست عليه، وربما لا تزال تُنكِّل به من دون رأفةٍ، غير عابئةٍ بعمره الذي أشرف على التسعين!
قدّم مع فرقته آلاف الأعمال من دون ملل. ويحتلّ في ذاكرة الجيل القديم مساحة كبيرة من الذكريات الجميلة، وحتى الجيل الجديد تدفعه الرغبة والفضول إلى الاطلاع على أعماله.
تيزاني، وفضلاً عن أنه يملك رحلة طويلة في التمثيل، هو علامة فارقة في الفن اللبناني يصعب تكرارها أو تقليدها حتى، وهو رمز فني يُحتذى ويفاخر به اللبنانيون. ومَن يتعرّف عليه ويقابله يزيد عشقه له نسبةً إلى تواضعه وطيبته ومحبته التي تتدفق على الآخرين من دون حساب.
اللقاء كان ثرياً بين «الراي» والفنان الكبير صلاح تيزاني، وكان حصيلته هذا الحوار الذي عُدنا فيه مع «عميد الممثلين اللبنانيين» إلى الماضي، حيث بكارة البدايات وأحلام الطفولة.
• ألم يحدث أي خطأ يُذكر خلال العروض المباشرة؟
- لم تكن الفرقة تلتزم بنصّ، وكنا نتكلم «شو ما طلع معنا» لملء الهواء. أعضاء الفرقة كانوا يعتمدون بعضهم على بعض كثيراً، ولم نرتكب أي خطأ طوال عشر سنوات. تقريباً عملنا على تقديم عروض ارتجالية. عندما لا تتقيّد بنص ومخرج ويشعر الممثل بأنه حرّ، فحينها «يعطي من قلبه». الكوميدي الناجح يأخذ المشهد مرة واحدة.
• مَن الشخص الذي كنتَ تعتمد عليه في الفرقة؟
- لماذا استمرّت الفرقة نحو 55 عاماً؟ لأنها لم تعتمد على شخص واحد، بل كنا 11 ممثلاً وكلٌّ منهم لديه دور وحضور.
• مَن كان الموجِّه لفرقة أبو سليم؟
- أنا مَن كان يوجهها، ومَن كان يكتب لها وكنتُ قائدها. وللمرة الأولى سأقول: كنت أفرغ من الحلقة، وبينما أنا في طريقي إلى المنزل كنت أفكر في الحلقة المقبلة، ولا أعلم ماذا سأقدّم فيها. أضع الورقة أمامي وأمسك بالقلم، وأبدأ بالكتابة: مثلاً: أبو سليم راح على محل أسعد ودق الباب، و«هيك بتكرج العملية، هيك من دون شي». كنتُ أعرض مشاكل الناس في قالب كوميدي. الأفكار كانت تأتي «منها لحالها». فمثلاً في إحدى الليالي، بينما كنت أعمل، كان الجيران في الطابق العلوي يدبكون، فصعدتُ لهم وسألتُهم عن سبب الإزعاج فقال لي الرجل: «ولاد بنتي عم يلعبوا فوتبول»، وعندما طلبتُ منه جعْلهم يتوقفون أجابني: «حتى يسجل أحدهم هدفاً وينتهي الماتش». وقد قدّمتُ حلقة مبنيةً على هذه الواقعة. قدّمنا مواضيع متداوَلة بين الناس، لكن عملنا على تضخيمها وتوسيعها قليلاً، وهذا ما يوجِد الفكاهة التي تَنتج عن كل شيء «مش طبيعي».
• ما سر انطلاقة فرقة أبو سليم؟
- لم تكن هناك كوميديا غيرنا في ذلك الوقت، كما لم نستخدم الكلام البذيء أو الذي يخدش السمع، حتى أننا لم نستخدم الكوميديا التي تُضحِك كثيراً، أو أكثر مما يلزم.
• لماذا؟
- تلك الكوميديا التي تقتصر على التعليق الساخر على أصحاب العاهات، كالأعمى والأطرش مثلاً، لم أحاول أن أستخدم العاهة البشرية لإضحاك الناس لأن هذا الأسلوب معيب في تقديري. فهل تضحك على المجنون أم تشفق عليه؟ جميع ممثلي مصر استخدموا مستشفى المجانين في أعمالهم، وهذا النوع من الكوميديا أعتبره جريمة بحق الإنسانية. يجب أن تَضحك على مشاكل الناس والصعوبات التي يواجهونها، وليس على عاهاتهم. وما يُطرح الآن في الكوميديا أعتبره معيباً أيضاً، فالإيحاءات الجنسية مرفوضة. ولذلك بهذا المعنى، أنا لا أزال «دقّة قديمة»، لكنني مُصرٌّ على أن ما يحصل عيب.
• وماذا عن التطور الذي أصاب المجتمعات؟
- لا أحبّ الكوميديا المبنيّة على الإيحاءات الجنسية، ووجودها دليل نقص في الكتابة. هذه المواضيع مناسبة للناس البسيطة، لكن الناس المحترمين لا يتقبلون مثل هذه المواضيع.
• وماذا تقول عن عبارة «الجمهور عاوز كده»؟
- لا أوافق على هذه المقولة، فالجمهور كما تُعوِّده أنت. فالجمهور بسبب انسياقه للغريزة يرغب في سماع ما له علاقة بالجنس الذي يحبه كثيراً، وحتى لو قال عكس ذلك. الرجل يفكر في الجنس 20 مرة في اليوم الواحد، والمرأة كذلك لكن «كله بيكذب على بعضه»، ويدّعون الطهارة والبراءة بعضهم أمام البعض الآخر. الجنس يسير في حياتنا اليومية كالأكل والشرب وربما أكثر.
• ونتيجةً لكلامك، فإن استخدام الجنس في الكوميديا مباح إذاً؟
- لا. كل شيء له حدود، فبهذا المنطق هل أستطيع خلع ثيابي في الشارع أمام الناس؟ كان الأمن العام في السابق يأخذ نص كل حلقة لمراقبته قبل تصويره، وهو اتخذ في أحد الأيام قراراً بوقف إحدى الحلقات بسبب وجود كلمة «العمى» في النص. لماذا لا يتكلم الأمن العام الآن؟
• هل لك أن تُخبِرنا عن طفولتك؟
- كنتُ أقوم بالكثير من «المقالب» في طفولتي مع إخوتي. طفولتي سعيدة إلى حد ما. والدي كان ضابطاً في الجيش التركي، وأصيب خلال الحرب العالمية الأولى وتَقاعَد وانتقل إلى طرابلس. جاء الفرنسيون بعد ذلك إلى المنطقة وعرضوا عليه منصب قائد عام، لكنه لم يوافق ورفض التعاون مع الفرنسيين بسبب قسَمه بالولاء للسلطان العثماني، فتعرَّض للتهديد وأُرغم على التعاون مع الفرنسيين، وجرى تعيينه فترة ستة أشهر قائد منطقة، من طرابلس إلى تلكلخ. وفي تلك الفترة تعرّف على والدتي فتزوّجها وجاء إلى طرابلس، وحينها عمل في مجال آخر، وتحديداً في سوق الخضار، ما أدى إلى تراجع أحواله المادية، فكان يتقاضى 4 ليرات ذهب حينها، «وبدنا نعيش فيهم». لديّ 6 إخوة بنات وأخ وأنا أكبرهم. وحينما تُوفي والدي، كنتُ أبلغ حينها 25 عاماً، ولذا عملتُ في النجارة لأُطعِم العائلة وأصرف على الفن.
• أخبِرنا عن حياتك العملية؟
- عملتُ عند الحاج سعيد قنطري، وكان تاجراً للموبيليا، وكنتُ أتقاضى 24 ليرة في الأسبوع، واستطعت تربية إخوتي وساهمتُ في زيجاتهم أيضاً. عندما كنا نقدّم أي عمل ولا يغطي تكاليفه، كنت أغطّي الفارق من جيبي الخاص، ولم أطلب مرّة ليرةً واحدة من أي شخص. كان لديّ محلّ، فأصبح لدي 40 عاملاً بعد فترة قصيرة، لكن «كيف انكسرنا؟». تعلم أن البيع يكون بالدَّيْن أحياناً، ويتمّ عن طريق السندات، وكان مجموع السندات نحو 300 ألف ليرة، أي ما يوازي حينها 100 ألف دولار، وعندما انخفضت قيمة العملة اللبنانية باتت قيمة هذه السندات تعادل 200 دولار فقط، وهذا سبب خسارتي حتى صرتُ «تحت الأرض».
• ألم يعُد عليك الفن بأي مردود مالي كبير؟
- كنا نتقاضى على النص في التلفزيون 225 ليرة، وهذا ما يُنتِج 1000 ليرة في الشهر، يعني في النهاية «بيطلع لكل شخص 15 ليرة على الحلقة الواحدة». التلفزيون كان جديداً، ولم تكن هناك أسعار كبيرة، لكنني استمررتُ على الرغم من صعوبة الوضع، إذ «ما كانت فارقة معنا المصاري».
في الحلقة المقبلة
? نسيت «أبو سليم» الآن... وما عاد هذا الاسم يعني لي شيئاً!
? كلما طالبتُ بحقوقي الفنية أجابوني: «مش نحنا اللي اتفقنا معك واللي اتفقوا معك ماتوا وشو بيعرفنا كيف كان الاتفاق»!
? رجل غير لبناني يُدعى خلدون بركات يرفق بحالي ويُرسل إليّ ظرفاً شهرياً بمبلغ من المال!
? كان بالفرقة أشخاص أمّيون وليست لهم علاقة بالفن... وأنا من دربتهم وجعلتهم فنانين على الشاشة والمسرح
? لو بقيتُ في فن «المونولوج» لكنتُ أفضل حالاً بكثير... لكن سوء حظي دفعني إلى التمثيل!