رثاء
ما زلت أبحث عنك... يا أخي!
| د. طارق فرنساوي عبد |
1 يناير 1970
04:35 م
بعد أن سمعت دوي الانفجار، اتصلت به مراراً دون جدوى، أذكر أنني خرجت إلى الشارع مسرعاً أبحث عنه، ألتمس الأزقة والشوارع، أركض كطائرٍ مفجوع، الدماء في عروقي تغلي، وهذا الظلام حولي... هذا الظلام، نشيجه يكاد يقتلني، توشك إحدى السيارات أن تصدمني، فيقول لي سائقها (انتبه يا...).
يعيد لي الزمان ذلك الهاجس، شيء يبعث على القلق... أعرف مصدره... إنها ذكريات الطفولة.
كنا أطفالاً ننام معاً على فراش واحد، كنت أشعر بدفء وطمأنينة لا أقاضيها بالدنيا وما فيها، فيرخي الليل علي سدوله ليذكرني أنني قد أفقد هذا الشعور يوماً ما، وأقضي ليلي بالبكاء، حتى لأخال أنني كعصفور مهيض الجناح في عرض السماوات و الارض، أو كريشة ناعمة تعصف بها رياح عاتية، مضيّعاً ضياع اليتيم الذي لم يجد له كافلاً.
يزداد الليل ظلمة ولم أعثر عليه... ذهبت أبحث عنه في المستشفيات، أولهم قال لي: ليس لدينا أحد بهذا الاسم.
ذهبت إلى مشفى آخر، سألت موظف الاستقبال عنه فأكد لي أنه ليس هنا.
إلا أنني رأيت أمامه كيساً ملطخاً بدماء أخي، بداخله بقايا حاجياته مكتوب عليه وائل فرنساوي عبد، صرخت بوجهه: هذه أغراضه! لا بد أن يكون هنا! اتصل بأقسام المشفى جميعها فأكدوا له أنه غير موجود!
رأيت أن أبحث عنه بنفسي، وقد ساق الله لي من ساعدني في البحث، ذهب إلى قسم العناية المشددة، تقدمت معه بخطوات ثقيلة، فرأيته بأم عيني، رأيته وقد استباحت الشظايا جسده، فدارت عيناي في محجرها، وانقبض وجهي، واسود لوني، وانعقد لساني، وجفت شفتاي، وضعفت ساقي، حتى رأيتني أسقط أرضاً.
بعد دقائق جاءت إلي الممرضة تسألني عن اسمه، وقد عللت الأمر أنه كان مسجلا لديهم باسم (مجهول).
مجهول! نعم يا أخي مجهول!
حكم علينا أن نبقى مجهولين، وكأننا أبناء غير شرعيين لشيطان ألقى بذوره اغتصاباً في رحم هذا الكوكب، ليلفظنا الكون كارهاً لنا منذ لحظة الولادة الأولى، ثم يلعننا الزمان والمكان والظروف والأقدار، ألم تر أن اللقيط مكروه وهو لم يقترف ذنباً قط، هذا حالنا يا أخي.
ولم أشأ أن أسألها كيف تم تسجيله (مجهول) وهويته المدنية لديكم!
فلا السؤال يجدي ولا الجواب يسعف قد انقضى الامر، ولا أملك إلا أن أعلك حزني و ألوك مأساتي.
وتمر الشهور والسنون وهذا الجرح في قلبي لا يندمل، تتقاذفني أمواج الأسى والألم، لم أستطع تصديق الأمر، ما زلت أبحث عنك، أصبحت كمتسول أشحذ رائحتك من زوايا البيت، أبحث عن فتات جلدك، من غطاء سريرك، من وشاحك، من معطفك، أحاول رسمك في صداعي، في وجعي، في كآبتي وأرقي، كطفل يمد يده ليداعب سرة الشمس فتحرق أصابعه ليبكي، يبكي طويلا.
أشعر أن شيئا منك لا يزال هنا، يلتهم أحشائي... يستبيحني من جذوري، يمزقني، شيء منك عالق هنا في ذاكرتي، في صدري لا أستطيع لفظه ولا أستطيع دفنه، كالخنجر في رئتي... منثور كقطع البلور في شرياني... مغروز كشوكة في كبدي، مزروع كطعم الموت في عروقي.
فمنذ أن غبت أصبحت رائحتك تستعبد جوارحي، تشعلني حتى الثمالة، منذ أن غبت أصبح وجودك أكبر. أكثر قداسة ورهبة.
حبيبي وائل أشهد أنك تنقصني، أشهد أنك تنقصني بحجم هذا الخراب.
* في رثاء أخي وائل فرنساوي عبد