في نقد العنف
| د. عمرو سعداوي |
1 يناير 1970
08:20 ص
ربما كان العنف السياسي هو أسوأ البدائل التي يمكن لتيارات أو جماعات سياسية أن تنتهجها في مواجهة النظم المغلقة التي تتوسل الاستبداد والعنف منهجاً وحيداً في إحكام قبضتها على مفاصل الدولة والمجتمع.
ذلك أن مؤدى تبني خيار المواجهة أو فلسفة العنف سبيلاً في مواجهة نظم الاستبداد، هو في جوهره منازلة النظام في موطن نقطة قوته، وهو الاستخدام السافر للقوة الغاشمة (الغشيمة) واعتماده كثافة النيران أسلوباً وحيداً لمواجهة المعارضين.
لقد حسمت نظم الاستبداد خيارها السياسي في مواجهة حركات المعارضة باللجوء إلى «آلية» القهر والاعتقالات المستمرة واعتبارها «الآلية الكبرى» في إعادة ترسيخ قبضتها على مفاصل الدولة والمجتمع ومؤسساته الوسيطة، ومحاولة الإمساك بأطراف جميع الخيوط والتحكم فيها، الأمر الذي يفرز لنا معادلة من النوع الصفري (Non Zero Sum Game) يكون الخاسر فيها خاسراً لكل شيء.
وهكذا هو دوماً رهان - أو إن شئنا الدقة - قمار نظم الاستبداد.
وفي «المعارك الصفرية» ليس هناك نصر كامل ونهائي، فحتى في حالة تحقيق الحد الأعلى وهو القضاء المبرم على الخصوم، فإن هذا النصر الوهمي كتب على نفسه الفناء ولو بعد حين، لاختفاء عنصر الدينامية في الحياة السياسية وهو ما يضمن الاستمرارية.
وإذا كان هذا هو نهج وآليات عمل نظم الاستبداد، فإن القوى السياسية التي تدخل بإرادتها هذه «المعركة الصفرية» تكون حكمت على نفسها بالخسارة مقدماً، لأنها اختارت أن تلعب لعبة الصراع السياسي على ملعب الخصم وأرضه وبقوانينه.
وتجارب التاريخ الحديث والمعاصر تعلمنا أن النظم المستبدة كثيرا ما تدفع الناس دفعاً لتبني خيارات سياسية تعتمد العنف سبيلا وحيداً لتغييرها، حتى تجبرها على اللعب على ملعبها وفي أرضها، وهو المجال الذي تتميز فيه وهو استخدام العنف، وما تجربة سورية بشار الاسد، عنّا ببعيدة.
فالسلطات الحاكمة أيا كان أساس شرعيتها أو نصيبها من الشرعية:
هي المخولة قانونا باستخدام وسائل القوة. وهي من تملك السلاح الرسمي للدولة (القوة الصلبة). وهي من تجند أجهزة الدولة ومؤسساتها (وحتى بعض القوى السياسية والإعلامية) لخوض غمار معاركها مع خصومها السياسيين. وهي التي تحدد معايير (الوطنية والخيانة) وتفرضها على أجهزة الإعلام ومؤسساته.
وفي هذا الإطار توظف النظم الاستبدادية أداتين للقهر:
- الأداة القمعية الأمنية، ممثلة في مؤسسات القوة الصلبة.
- أداة القمعية الإعلامية التي تعمل على تزييف وعي الناس وصرفهم عن مشاكلهم الحقيقية بشتى السبل، بل وإلهائهم بمشاكل مصطنعة ومهلكة يقضون فيها حياتهم، وتشكل هذه الآلة القمعية حالة استباحة للمعارضين.
وفي مثل هذه الأجواء شديدة الفساد والاستقطاب يصبح: البلطجية والمسجلون خطرا والمسجلات آداب، «مواطنين شرفاء» وما أدراك ما «المواطنون الشرفاء» عندما يتسلطون على المعارضين في ظل حماية أجهزة الأمن؟
وهناك ثلاث قواعد تشكل البنية الأساسية لعقلية النظم المستبدة:
- رفض النظر إلى أي فئة أو جماعة أو تيار على أساس كونها نظاماً بديلا.
- إن هيبة الدولة تنحصر في إصدار قرارات لا تعود فيها.
- التفاوض بمفهوم النظم المستبدة يعني الهزيمة، أو بتعبير أخف يعني التنازل، وهو ما لا يمكن أن تقبله.
وإذا كان خيار العنف هو خيار النظم المستبدة فإن على الطرف الآخر أن يحسم خياره السياسي، وهو عدم التوسل بالعنف لتحقيق الأهداف، لأن كل خيار سياسي يستدعي منظومة كاملة من: الفلسفة، وآليات العمل، وسبل المواجهة، وطرائق النزال، ووسائل تربية وتثقيف الأفراد داخليا.
ومن ثم تكون كلفة الخيارات العنيفة، سواء على المستوى النظري الفكري أو المستوى الواقعي على الأرض، أعلى مما تتحمله أي حركة سياسية، بل ربما يأذن بانهيار المشروع الذي يتبنى العنف خيارا واقعيا أو عمليا.
كما أن «السلمية» تنزع عن النظم المستبدة شرعية استخدام أدوات البطش في مواجهة حركات سياسية لا تؤمن بالعنف، ولا تستخدمه، ولا تدعمه، ولا تروّج له.
وعلى حركة التغيير أن تحسن توظيف العمق الشعبي لها، والعمل على بناء «رؤية واضحة» لكيفية إدارة الصراع ضمن محددين هما: المراهنة على «معادلة الداخل» ورفض الدعوة للتدخلات الأجنبية. والمراهنة على «معادلة الحل السياسي السلمي» ورفض العنف والتغيير الفوقي.
وأي تفكير في إدارة الصراع يغفل هذين الشرطين غير مأمون العواقب، حيث المخاطر أعلى بكثير مما يتوقع الكثيرون.