عندما يدق «الحب» .... قلوب الكبار!
جمال سالم وسلوى... غرام نائب الرئيس / 19
1 يناير 1970
06:00 م
| القاهرة- من محمود متولي |
الحب فوق القمة... مثل الحب تحت السفح... لا يتغير... ولا يتبدل ولا يتلون... هو لمسة من السحر تمس القلوب فتطهرها... وومضة من الأمل تضيئها... وتغفل بها عن خطايا وذنوب الدنيا فلا يرى العشاق سواء كانوا فوق القمة أو أسفل السطح... سوى الحب والحبيب.
لكن يبقى غرام المشاهير، ونزواتهم أيضا كأنه سر من أسرار الدولة العليا... يغلفه المشاهير بالكتمان... سواء كانوا نجوم سياسة أو مال أو رياضة أو أدب أو فن... وأحياناً ينفضونه كأنه رجس من أعمال الشيطان، لا يهمهم غير أن تظل الستائر الكثيفة تخفيه وتخبئه عن عيون الفضوليين، لكن بعضهم يخرج أحيانا عن صمته... ويستدعي المأذون... ويسمح للصحف بنشر الخبر وللصور.
وأعظم ما في غرام المشاهير أن تخرج لتلامس شغف عيون الناس... أنه يسترد لهم إنسانيتهم... وضعفهم... ويجعل من الملوك رعايا، ومن الرعايا ملوكا!، وأحيانا لا يهدد العرش والصولجان... غير دقة قلب ينبض بها قلب «الرجل الأول» في الدولة... أو المملكة.
«الراي»... سبحت في دهاليز وكواليس غراميات ونزوات المشاهير، ورصدت آهات وعذابات وآلام ودقات قلوب كبار نجوم القمة والمشاهير... سواء كانوا من الرؤساء أو الملوك أو الشعراء أو الفنانين أو المفكرين... لكشف أدق أسرار الحياة الخاصة بهم من خلال هذه الحلقات... في السطور التالية.
انطلقت سيارة نائب رئيس الجمهورية في مصر في العاشرة مساء... إلى الحىّ الهادئ في قلب القاهرة ... أمام إحدى بنايات جاردن سيتي، وبالقرب من شاطئ النيل توقفت سيارة نائب الرئيس ... مضى إلى البناية في خطوات رشيقة ... صعد بالأسانسير إلى الطابق السادس... لم يكن نائب الرئيس قد ارتبط بموعد زيارة لصديقه الحميم مهندس الرىّ الكبير . . لكنه اعتاد الزيارات بموعد وغير موعد لأسرة صديقه.
أمام الشقة امتدت يده إلى جرس الباب، لكن صرخة من داخل الشقة جاوزت الحوائط... واخترقت الأبواب . واقتحمت أذنيه صرخة تنم عن وجع امرأة وصلت إلى الطريق المسدود مع شريك عمرها.
تردد نائب رئيس الجمهورية برهة , لكن الصرخة تكررت «3» مرات في لحظة واحدة: طلقني ... طلقني ... طلقني !
ضغط نائب الرئيس على الجرس وهو يلملم تركيزه، وفتح المهندس الكبير باب شقته ... وارتمى في عناق طويل مع صديق عمره نائب رئيس الدولة.
ظل مهندس الرىّ يشكو زوجته إلى صديق العائلة ... أصبحت تثور لأتفه الأسباب ... لا تحتمل كلمة من زوجها أو الخادم أو الطباخ... معظم وقتها تقضيه في الاستماع لأسطوانات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
ضحكات ودموع
ضحك نائب رئيس الجمهورية من شكوى صديقه التي دمعت عيناه وهو يستطرد في نبرات حزينة : «صدقني يا جمال ... لولا أني أحبها لطردتها من بيتي بعد أن بدأت تعاملني كأسير يخشى بأسها ... لولا شعوري بأني أمام امرأة أخرى لا تمت بصلة إلى سلوى بنت الأصول والحسب والنسب لامتدت يدي تصفعها بعد كل خطأ ترتكبه في حقي... لا أصدق أن تتنكر امرأة لزوجها الذي كانت تنتظره في الشرفة حتى لحظة عودته».
ضحك جمال سالم «نائب الرئيس جمال عبد الناصر»... من شكوى صديقه الذي تحول إلى مراهق استبدت به مشاعره البكر، لكن زوجة المهندس الكبير وقفت منتصبة ... يملأ وجهها العناد والدموع معا، ويغلف نبراتها الحزن والإصرار في لحظة واحدة.
قاطعت زوجها موجهة حديثها إلى جمال قائلة: « دعه يطلقني ... لم أعد أتحمل ... كيف يقبل أن يعيش مع امرأة تنازلت عن مشاعرها نحوه.
طلب جمال سالم من صديقه المهندس الكبير... أن يرتدي ملابسه فورا ليخرج معه ... أطرق الزوج برأسه إلى الأرض خجلا، ثم نهض على استحياء ومضى في ضعف إلى حجرته كأنه جيش يتراجع بقواته منسحبا، بينما الزوج يرتدي ملابسه اقترب نائب الرئيس من زوجة صديقه وهمس لها بصوت غير مسموع: «سوف أجعله يبيت ليلته بمنزل شقيقته ... أرجو أن تنتظريني بجوار التلفون».
رفعت زوجة المهندس رأسها في سعادة... نظرت نحو النائب ثم همست له: «ما تتأخرش عليّ يا جمال».
مضت سيارة نائب الرئيس التي تحمل 3 أرقام فقط فوق لوحاتها المعدنية على هضبة المقطم «شرق القاهرة»... أسدلت الستائر فوق النوافذ واعتدل الصديقان في مقعديهما وكان المهندس الكبير ذابل الملامح ... زائغ النظرات ... مكفهر الوجه ...محتقن العينين ... بينما نائب الرئيس يبدو أكثر شبابا من أي وقت مضى ... تلمع عيناه ببريق مثير ... يتفجر خداه حيوية ودماء ... هادئ الملامح ... واضح النبرات.
جريمة وفضيحة
شعر الزوج الذي وضعه كبار قادة الثورة على رأس إحدى الشركات الكبرى أنه لم يكن أسعد حظا من تلك الليلة ... كان يمكن للأمور أن تتحول إلى جريمة أو فضيحة لو لم يكن إلى جواره صديقه الكبير الذي يُدخل اسمه الرعب في قلوب الناس ... ارتاح المهندس الكبير بوجود جمال سالم إلى جواره في تلك الليلة، لكن الطريق إلى المقطم لم يكن طويلا مثل الليلة ... كأنه الطريق إلى جهنم .
توقفت السيارة الفارهة أمام أحد الشاليهات فوق هضبة المقطم... داخل الشاليه جلس نائب الرئيس إلى أريكة من الإسفنج بجوار نافذة الشاليه... حيث تبدو القاهرة مشرئبة العنق نحو بيوت وشاليهات كبار القوم... وجلس المهندس الكبير إلى جوار صديقه ينصت باهتمام وترقب لاقتراح نائب الرئيس.
وراح جمال يقنع صديق عمره بأن يبتعد عن زوجته شهرا ... خلال الشهر يمحص كل منهما نفسه، ويختبرها حتى يصلا إلى القرار الذي عليهما أن ينفذاه فورا ... إما العودة وإما الطلاق.
صمت المهندس الكبير برهة يهدئ من دقات قلبه المتلاحقة، بينما استطرد جمال سالم يصف الظروف التي يجب أن تتوافر ليصل كل من الزوجين إلى قراره في هدوء واقتناع ... ممنوع الاتصالات التلفونية ... أو الزيارات ... أو المواعيد ... أو المؤثرات أيا كان نوعها أو سببها أو وسيطها.
دمعة ساخنة
سقطت فجأة دمعة ساخنة فوق خدي المهندس الكبير... كأن بركان الحب ينفجر هذه اللحظة من عينيه ... شعر أن الأيام الثلاثين... لن تكون إلا دهرا كاملا وسلوى بعيدة عن عينيه.
حاول أن يقنع صديقه نائب الرئيس أن يخفف من «الهدنة» ويخفضها إلى أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر . لكن كلمات جمال سالم كانت حاسمة وحازمة ... ... نصحه بأن يحتمل مهما كان الثمن فربما كانت النهاية قرارا بالانفصال مدى الحياة، وأخفى المهندس الكبير رأسه بين راحتيه وجهش ببكاء مسموع.
لقد استسلم لاقتراح صديقه، وسوف يبتعد عن حبيبة عمره من الليلة ... وعده نائب الرئيس بأن يتصل بزوجته ليعرض عليها نفس الاقتراح ويقنعها بتنفيذه.
تنهد الزوج في حرقة وما زال يغالب دموعه ثم همس لصديقه قائلا: « من الليلة سأذهب إلى بيت شقيقتي .... أرجوك يا جمال أن تتصل بها كثيرا . أعرف أنها تحترم رأيك وتقدره وأن لك عليها تأثيرا كبيرا ... لا تتركها كل هذه الأيام تفكر وحدها يا جمال ... أرجوك اتصل بها كثيرا وحاول أن تقنعها ... أنا مستعد أدفع عمري كله علشان ترضى عني ونعيش في بيتنا لحد ما أموت ... أرجوك يا جمال.
قضايا الدولة
ومضت الأيام تجري نحو اليوم الموعود، كان نائب الرئيس قد اختفى تماما عن صديقه ... تظاهر بانشغاله في قضايا الدولة ... واجتماعات قادة الثورة ... وقرارات حماية المكاسب الوطنية من أعداء الأمة.
حاول نائب الرئيس ألا يجمعه اللقاء بصديقه المهندس الكبير ... تجاهل مكالماته التلفونية ... اعتذر عن المواعيد التي حملها إليه رسل صديق عمره ... بالرغم من ذلك كله لم يكن بعيدا عن متابعة أدق تفاصيل «الحكاية» وأخبارها وتطورها.
علم أن الطلاق قد وقع بين الزوجين العاشقين، وأن صديق عمره بكى أمام المأذون كما يبكي المحكوم بإعدامهم أمام عشماوي.
قالوا له إن المهندس الكبير جلس أمام المأذون مصفر الوجه ... مرتجف الأطراف تائه العينين ... وأنه كان يردد كلمات الطلاق خلف المأذون كما لو كان ينزف دما من لسانه.
علم أيضا أن المهندس الكبير منذ لحظة الطلاق يلازم فراش المرض بمنزل شقيقته، ... رفض أن يعود إلى شقته التي رحلت عنها زوجته بعد طلاقها . رفض حتى أن يجمع منها أشياءه وحاجاته الضرورية ... توقف عن العمل ... ساءت صحته ... يبدو كما لو كان مشلول الجسد واللسان.
الصديق وزوجته
ذات يوم فكر نائب الرئيس في زيارة صديق عمره ... لكن سرعان ما طرد الفكرة من خاطره دون رجعة ! ... كانت أخبار المهندس الكبير تصل إلى صديقه في مكتبه بقصر عابدين يوما بيوم ... بينما أخبار « سلوى» تصل لحظة بلحظة.
كانت سلوى قد هجرت عش الزوجية الذي شهد أجمل سنوات عمرها فور طلاقها إلى منزل أسرتها بالإسكندرية ... حملت أشياءها وحاجاتها في فرحة سجين يغادر زنزانته ... أسرعت إلى سلم العمارة كطفل ينطلق إلى اللعب واللهو ... ركبت سيارتها وكأنها بساط الريح الذي سيعبر بها الآفاق إلى دنيا كانت تتحكم بها.
أحست فجأة أن كل ذكرياتها تراجعت .... انسحبت ... توارت ... لم يعد باقيا من ذكرى زواجها سوى أن تغلق هي الملف بيدها ... وتمضي إلى شقتها لتنتظر مكالمة الصباح ... لا شيء يحول امرأة من ضعف إلى قوة ... ومن قوة باقية من ذكرى زواجها سوى أن تغلق هي الملف بيدها ... وتمضي إلى شقتها لتنتظر مكالمة الصباح ... لا شيء يحول امرأة من ضعف إلى قوة ... ومن قوة إلى جبروت... سوى حب جديد.
دق جرس التلفون في الصباح... رفعت سلوى السماعة في لهفة ... على الطرف الآخر من الخط سمعت صوته ... كاد قلبها يقفز من صدرها ... ارتعشت السماعة في يدها وهي تنصت لكلماته ... كان حبيبها يؤكد لها أنه لن يستطيع أن يؤجل زواجهما أكثر من ذلك ... صرخت في فرحة تقول له ... «لازم نستحمل شهور العدة»... خلاص باقي 6 أيام.
لم يتردد حبيب عمرها ... قال لها في لهفة ... «إذن نتزوج بعد سبعة أيام ... سوف أتخذ الترتيبات من اليوم ... سأقيم لك حفلا أسطوريا ... مصر كلها تحضر لتبارك لك يا عروسة !».
طارت سلوى من الفرحة ... اقتحمت حجرة والدتها، وهي تصيح فيها بأن حلم العمر سوف يتحقق بعد «7» أيام فقط ... سوف تصبح حرم نائب رئيس الدولة ... وربما خدمها الحظ فأصبحت خلال سنوات قليلة حرم رئيس الجمهورية.
صاحت أمها بعد أن أذهلتها المفاجأة التي كتمتها عنها ابنتها ... «جمال سالم» يا سلوى ؟! ... إحنا قد المقام ...دول ناس كبار يا بنتي ... لأ يا سلوى فكري يا بنتي !»
ردت سلوى وهي تضع ساقا فوق ساق وابتسامة عريضة ترتسم فوق وجهها:
يا ماما ... الحب مفيهوش ناس كبار ... كل الناس الكبار عندهم ستات أكبر منهم
أذاعت سلوى الخبر الخطير بعد أن أذن لها الرجل الكبير.
تقارير أمنية
أصبحت قصة الحب الرقيقة سطورا في تقارير أجهزة الأمن رفيعة المستوى... وحكاية يتناقلها الناس ... وخبرا انتظرت الصحف السماح بنشره.
لم تصدق سلوى عينيها وهي تشاهد كروت الدعوة على حفل الزفاف ... وقفت أمام المرآة تتخيل نفسها في «الكوشة» للمرة الثانية ... في المرة الأولى كانت تزف إلى مهندس من بين آلاف المهندسين في مصر ... وهذه المرة تزف إلى الرجل الثاني في الدولة نائب رئيس الجمهورية.
في المرة الأولى لم يحضر الحفل سوى بعض الأقارب والمعارف وكان أبرز الحضور ضابط برتبة عميد، وفي المرة الثانية سوف يتوافد على الحفل الكبير كل الوزراء وكبار المسؤولين وقادة الجيش والشرطة ... وسوف يكون أبرز الحاضرين رئيس الجمهورية وزعيمها جمال عبد الناصر.
في المرة الأولى أحيت الحفل «عوالم شارع محمد علي»، وفي المرة الثانية سوف ترقص لها سامية جمال وتحية كاريوكا ويغني عبد الحليم حافظ و محمدعبد الوهاب ويقدم فقرات الحفل كبار الفنانين ونجوم الصحافة والأدب والرياضة في مصر.
كانت سلوى قد استردت جمالها بعد أيام من طلاقها ... حاولت صديقاتها أن يخرجنها من بيت أسرتها ... لكنها أبت أن تخرج منه إلا وهي تتأبط ذراع الرجل الذي ضحت من أجله بأجمل سنوات عمرها أو هكذا كانت تظن ... زمان عندما تقدم لها مهندس الري لم تستكثر جمالها الصارخ عليه ... جذبتها إليه قوة شخصيته ... وطموحاته التي لا تنتهي ... ومستقبله الذي ينبئ عن مناصب مرموقة سوف يشغلها.
فقد كان مهندس الرىّ من أبرز مؤيدي الثورة ... وأقرب الأصدقاء إلى قلب كل الثوار ... ساندهم بشدة ... واحاطوه برعايتهم ... كانت سلوى تهيم بغرامه ... وكان يغار عليها من الهواء ... المرة الوحيدة التي اصطحبها فيها إلى نادي الجزيرة أحدثت انقلابا في مقاييس الجمال بين الأوساط الراقية ... سحبت البساط من تحت أقدام حسناوات النادي ... أثارت غيرة بنات الذوات ... كان تفوقها واضحا في كل الساحات التي تتنافس فيها النساء ... أكثرهن فتنة وأنوثة.
كانت الكارت الذي تتوارى أمامه كل كروت المائدة!... عادت إلى بيتها يومها واثقة الخطى ... فقد خلع عليها رجال الجزيرة تاج النادي الذي يرتاده نجوم مصر ... لم تكرر المحاولة ... اعتكفت في منزلها... كانت تهوى الموسيقى والقراءة وتستعذب ساعات الانتظار الطويلة لزوجها المهندس الذي أصبح أحد كبار رؤساء الشركاء في مصر ... حتى كان العام الأخير من زواجها عندما بدأ زوجها يرفض السهر بعيدا عنها، واكتفى بدعوة صديق عمره نائب الرئيس إلى أن يقضيا كل ليلة معا في المنزل الهادئ بجاردن سيتي.
المهندس والفارس
وتكررت اللقاءات، لم يخطر ببال الزوجين أن تصطدم سفينتها الجميلة بصخرة منيعة تمزقها أشلاء وبقايا ... وأن نفس المرأة التي اختارت مهندس الرىّ بعواطفها ليقاسمها حياتها ... سوف تختار فارسا آخر يطرد أهل الجار ويفرض عرشه!
شعرت سلوى أن التفكير في الماضي لم يعد سوى عبث، حملت كروت الدعوة إلى حفل الزفاف ودارت حول نفسها ترقص في نشوة!
لم يعد باقيا على حفل زفاف جمال سالم من عروسه... سوى ساعات، ونشرت الصحف الخبر في سطور سريعة... دون أن تتذكر شيئا عن سيرة العروس.
واستعد كبار رجال الدولة والوزراء لحضور الحفل الأسطوري بالإسكندرية ... ما عدا جمال عبد الناصر الذي ألقى بكارت الدعوة فوق مكتبه بعد أن علم التفاصيل التي سبقت الزواج.
سرح الرئيس... بخاطره لحظات يسترجع صورة جمال سالم وتصرفاته في الأيام الأخيرة... لقد تحول جمال سالم إلى إنسان آخر... تبدلت طبائعه... لم يعد يميل إلى العنف والبطش، ولم يعد يعشق الاطلاع على قوائم أجهزة الأمن والاعتقالات اليومية لأعداء الثورة ! ... الرجل الذي كان مرعبا أصبح لطيفا يداعب الجميع ... الرجل الذي اعتاد إصدار الأوامر الحادة اعتاد في الأيام الأخيرة أن يمازح الآخرين ... العينان القاسيتان ملأهما حنان متدفق . اللسان الجارح السليط أصبح ناعما كأنه لسان شاعر!
شاطت أعصاب الرئيس غضبا من نائبه ... تذكر شقيقه صلاح سالم النجم الساطع من بين كل ثوار يوليو ... كاد أن يسبب إحراجا بالغا للرئيس عندما وقع في غرام الأميرة فايزة شقيقة الملك فاروق المخلوع ... وقتها فقد عبد الناصر أعصابه وطاح في صلاح سالم ينهره بعنف ... ويذكره بأن ألسنة الناس لا ترحم ... سوف يقولون إن الضباط الأحرار قاموا بالثورة ليستولوا على الأميرات الحسناوات.
وقتها ستفقد الثورة كل مصداقية لها ... لم يتردد حينئذ عبد الناصر عن قراره بطرد الأميرة فايزة فورا ... وبالفعل غادرت البلاد لتهدأ الأزمة العنيفة التي كادت تعصف برفاق السلاح قادة الثورة ... إلا أن جمال سالم أتى بمصيبة كبرى ... وقرر الزواج من امرأة صديقه التي يحبها بجنون وأصابه المرض العضال فور طلاقها منه.
حركات عصبية
كاد كوب الماء أن يتحطم بين أصابع الرئيس... التي ضغطت عليه في حركة عصبية حادة ... تحركت الدموع في عيني عبد الناصر وهو يتخيل المهندس الكبير راقدا في فراش المرض وأصداء حفل الزفاف تدوي في أذنيه.
قرر عبد الناصر أن يلقن نائبه درسا، واستدعى الرئيس كبار مساعديه ... أمرهم بعدم الاعتذار عن الحفل أو عدم الذهاب إليه أو التعبير حتى بباقة ورد.
طلب منهم أن يجهزوا للقاء سياسي بالقرب من حفل الزفاف... بحيث ينتهي اللقاء قبل بداية الحفل ... حتى يتعمد عدم الذهاب إلى الحفل بالرغم من وجوده القريب منه تصل رسالته كاملة إلى نائبه.
ذهب عبد الناصر إلى الإسكندرية ولم يحضر الحفل، وارتبك الحفل ... وغضب النائب ... وبدأ مولد الاشاعات حول الموائد ... تفسيرات وتبريرات ... حكايات وروايات ... لم تتوقف الألسنة لحظة واحدة عن تبرير تجاهل الرئيس لحفل نائبه.
وفي أول اجتماع لقادة الدولة تعمد الرئيس أن يثير أمرا يعرف تماما أن جمال سالم سوف يعارضه، ويعرف أيضا أنه سيهدد باستقالته كما دأب في كل المناصب التي تولاها والاجتماعات التي يحضرها.
وتحققت توقعات الرئيس، ثار جمال سالم ... وهدد صائحا: صدور هذا القرار معناه استقالتي!
وهنا بادر الرئيس عبد الناصر قائلا في شجاعة: ونحن قبلنا استقالتك يا جمال!
وهكذا خرج جمال سالم من عالم السياسة والأضواء والشهرة ... كانت سلوى هي كل مكاسبه في تاريخه الطويل ... لكن عمره كان قد وصل إلى نقطة النهاية ... مات جمال سالم ونسي التاريخ ذكره ... حتى الشارع الكبير الذي يخترق قلب العاصمة فقد أطلقوا عليه اسم شقيقه صلاح سالم.
نسيه الناس ونسوا سلوى، أما الزوج المهندس الكبير ... فقد عينه السادات وزيرا في عهده، وبالرغم من كل ما فعلته سلوى فقد اعتاد الوزير أن يزورها أسبوعيا في مصحتها النفسية.