قراءة في قصيدة
الشاعر عبدالعزيز جمعة يجسد العذاب... حبيبة ووطناً
1 يناير 1970
06:09 م
| بقلم حنان عبدالقادر |
للشاعر عبدالعزيز جمعة تجربة شعرية جديرة بالتوقف عندها، وتأمل معطياتها النفسية والفنية، وفي محاولة للتطواف في عالمه الشعري، أحاول عبر الاسطر الآتية... اصطحابك عزيزي القارئ في اجواء أبيات كتبها الشاعر بعنوان: «توارت في الحجاب».
ربما يحملنا العنوان في بدء مطالعته الى عالم الحبيبة «المرأة» التي نتخيل هيام الشاعر بها، وتعذبه فيها وهي متوارية خلف حجاب لا يستطيع الوصول إليها.
لكننا نجده يحملنا عبر مفارقة صنعها - على غرار الكلاسيكيين - لنا، فنجدنا أمام امرأة هي الحبيبة، والوطن في آن... هذا الوطن قد توارى خلف حجاب من العذاب والقهر والحرمان، والشاعر أيضا قد توارى أمله في عودة هذا الوطن خلف حجاب من الدهشة والفجيعة، وضياع الأمل، وتمنى الحلم المستحيل.
فالحبيبة الضائعة هي سلمى... أو فلسطين، هذه المرأة الوطن كتبت في ظهر الغيب منذ بدء الخليقة، يراها الشاعر في كل اسم عربي، وفي كل وجه عربي، لانها اميرة عربية باهرة الحسن.
فهي عندي ذات اسماء كثار
مي أو سلمى وهند أو سواها
وأناديها بسعدى أو بليلى
والمنادى ومضات من سناها
هي الحسناء، وطنه، وملاذه، هي المرأة الارض، هي الفتنة الحقيقية:
ولعل الشعر لما قد اتاني
ورى لي وطنا في الغيد تاها
مزج الفتنة ارضا ونساء
ورأى المرأة حقلا ومياها
هذه المرأة الوطن ربيع حياته، ومصدر بهاء الكون من حوله، علمته الحب الحقيقي في ثورة أحجارها على أكف ابنائها، يقذفونها طيعة في وجه العدا، فيجدعون أنوفهم ويشربونهم الذل:
قد رضعت الحب من أحجار أرض
طوع كف ضربت أنف عداها
هذه الأرض بحبها، علمته ان يحب بلاد العرب جميعا وأهلها، علمته ان الحب غير أناني، تلك السلمى - فلسطين - علمته ذلك في محياها... وفي لغاها:
وأحب العرب أرضا وسماءً
مثلما احببت أرضي وسماها
قد رأيت العرب في ألفاظ سلمى
حيث سلمى جمعت كل لغاها
ان سلمى... أو فلسطين أمنية الشاعر وحياته، فهو يتمنى ان يقضي فيها عمره، بل يطمح ان يمنح عمرا فوق عمره ليحياه في رباها:
ليتها تقضي معي كل زماني
ليتني أقضي زمانين «معاها»
ان جل ما يدهش الشاعر... كيف وصلت سلماه الى هذا المصير؟! انه القدر الذي يأتي غفلة فيضيع الآمال، ويقضي على الأحلام، رغم انه يسعد احيانا ويشقى، الا ان سلمى «الوطن» لم ترحل عنه الغمة لعقود مرت، ولم يشف غليل الشاعر بنجدته.
لعقود ما انجلى وجه حبيبي
أو أتى للنفس ما يروي ظماها.
انه يذكر يوم رحيله عن هذا الوطن، والحزن مخيم على الاجواء، لكن هذا الحبيب... جميل المحيا... لايزال يطل بنور وجهه في روح الشاعر، يزيل ما فيها من العنا، وكلما غاب هذا الوجه في ليل السرى، رحل فؤاده طالبا إياه ليأنس به ويسعد:
ايه ياليل السرى لما سليمى
أولجت فيك مضى قلبي وراها
ان السؤال المؤرق لروح الشاعر: ما الذي حدث لهذا الوطن؟ وماذا حل به؟ لماذا يعصف الزمان بصباه وأحلامه فيطويها طيا؟
هل بها دار الزمان المرعصفا
ومضى عهد صباها فطواها؟!
لست ادري كيف غابت لمصير
ومضت نحو مجاهيل دناها
إنه يبحث عنها في كل مكان، ليجد السلوى في كل ما له شبه بها في الحسن، لكن حسنها متفرد لا مثيل له:
أتحرى شبهها في كل ريم
ومزيد الحسن يأبى ان يضاهى
ولم يعد شاعرنا يملك من وسيلة سوى الشعر يجعله رسولاً بينه وبين محبوبة، ويتمنى دائما كلما غابت الشمس أن تشرق هناك على أرضه وستظل سلمى - فلسطين - أمله الباقي، وشمس عمره التي يتمنى ان تشرق يوما، وتسفر من حجابها، وتخرج من غيابها الطويل:
فإذا الشمس توارت في حجاب
فوشيك ان نراها في سماها
وسليمى شمس عمري في غياب
ليتها تشرق يوما وعشاها
هكذا... ترحل الامنيات خلف عذابات الشاعر بالوطن المغيب المقهور، في رحلة لا تنتهي به الا الى الأمل في ان تشرق شمس الحرية يوماً فوق أرضه.
والشاعر في قصيدته التي بناها - ان جاز لي القول - على غرار الكلاسيكيين في اثنين وثلاثين بيتا من بحر الرمل، اصطحبنا فيها بتؤدة الى عالم تجربته فيها، مبينا لنا من خلالها قدرته اللغوية، وتمكنه من أدواته الشعرية.
وإني أهيب بالشاعر ان يخفف الوطء على المتلقي، فقد اتسمت بعض ألفاظه بصعوبة معجمية تتطلب من القارئ جهدا لفهمــها وقد بات هذا الامر مضنيا للمــتــــلقي مثل قوله:
ذرة في «ثبج» الغيب
عندها أعطيت «اصري» في شهود
وعلى الرغم من قدرة القارئ على التوصل للمعنى المجمل من مفهوم البيت العام... الا ان توخي الدقة في الوصول للمعنى يوجب تقصي المعنى المعجمي.
هذا والنص في مجمله - رغم قوة لغته ورصانتها - يتمتع بسهولة التلقي والوضوح المعنوي أمام القارئ.
ومما يؤخذ على الشاعر أيضا في هذا النص: تضارب الشعور في الأبيات التي تتحدث عن الرحيل حيث يقول:
ولعلي ذاكر ليل رحيل
ونجوماً تتلألأ في علاها
وطيوف الحزن في عينيك تبدو
ومحياك مصابيح دجاها
فالشطران الأولان يحملان شعورا بالحزن وألم الرحيل، والشطران الثانيان فيهما من التلألأ وجمال المحيا ما يعطي شعورا متناقضا مع الأول فكيف يجتمعان في موقف مفروض ان يخيم عليه الحزن والأسى ومرارة الفراق؟!
ان التواصل الشعوري والمعنوي داخل الأبيات، كان يحتم على الشاعر ان يراعي ترتيب بعض الأبيات وربطها ببعضها، ولا نجد ذلك الا في وضعه البيت السادس والعشرين في مكانه من النص:
هل بها دار الزمان المر عصفا
ومضى عهد صباها فطواها
حيث جاء به الشاعر وسط أبيات تتحدث عن الرحيل والحزن المخيم، وتحريه شبيه الوطن حوله، بينما كان من الأفضل ان يضم هذا البيت لأبيات سبقت فيصبح ترتيبه التاسع عشر في القصيدة.
لكن تلك الملحوظات لا تنقص أبدا من ابداع الشاعر في نصه، وقدرته المتميزة في بناء القصيدة التي تبين مدى طول انفاس قائلها، وقدرته اللغوية والشعرية التي تبدت لنا في هذا النص الجميل المعبر.