على أبواب عشماوي
إعدام الجاسوس... إبراهيم شاهين / 13
1 يناير 1970
02:16 م
| القاهرة - من حنان عبدالهادي |
هل تستيقظ الضمائر؟... هل تقترب أبواب التوبة؟... أم أنها الصدمة فقط وحدها... هي التي يمكن أن توقظ الضمائر... أم أنه حبل المشنقة... هو الذي يأخذ المذنب... إلى طريق مختلف... يحاول من خلاله أن يؤكد ندمه على ما فعله؟
أسئلة كثيرة... نطرحها... ونحن نبحث في أمر الدقائق الأخيرة... في حياة القتلة والسفاحين والإرهابيين والخونة... كيف تكون هذه الدقائق... قبل الاقتراب من حبل عشماوي «منفذ عملية الإعدام»!
هل تتبدل أحاسيس... من قتلت زوجها... أو من قتل ولده... أو من خان بلده... أو من كمنت لأبناء جيرانها... أو من اصطادوا الضحايا تباعا وشربوا من دمائهم؟
وإذا بالفعل تبدلت... هل هو الخوف... أم أنه القناعة بالتوبة... قبل مغادرة الحياة... والندم على الأفعال والجرائم... بعد فوات الأوان!
وهل يمكن أن تنفعنا دموع عاشقة قتلت زوجها لتخلو لها الحياة مع «عاشق»... أو من أباح دماء سياح وفجر باصا يقلهم... أو من قدم لعدو معلومات عن بلده؟
القتلة والخونة... قد يذرفون الدمع أنهارا... وقد يطلبون التوبة والصفح والعفو... ولكنهم قتلة... لابد من عقابهم... وحبل المشنقة في انتظارهم... ولعل مشهد إعدام طاغية العراق «صدام حسين»... كان من أشهر هذه المشاهد.
«الراي»... بحثت كثيرا في أوراق قديمة وحديثة... عن أيام... أو ساعات أو حتى دقائق ما قبل الإعدام... ووجدت فيها الكثير من المواقف والحكايات... وعبارات الندم... ورايات سوداء ترفع... وقمصان حمراء تلبس... وشرود ذهني... وذكريات أليمة تجتر... وأيضا وجدت فيها «الإنقاذ»... أو نزول عدالة السماء عن «متهم... ليس متهما»... وفي السطور التالية الكثير:
في عالم الجاسوسية هناك من باع الوطن... إما في سبيل الحب أو للحصول على أموال كثيرة يستمتع بها وفي النهاية هو خائن يستحق الإعدام لبيعه وطنه ومنح أسراره للعدو... ذلك ما حدث لإبراهيم سعيد شاهين ابن العريش الذي تزوج من انشراح علي موسى، لكنه أعدم هو فقط.
تبدأ القصة... عندما ولدت انشراح علي موسى العام 1937- لأسرة متوسطة الحال - وعندما حصلت على الشهادة الإعدادية العام 1951 اصطحبها والدها لحضور حفل عُرس أحد أقاربها في القاهرة.
وهناك التقت بـ «إبراهيم سعيد شاهين» ابن العريش المولود العام 1929... حيث تزوجها وانتقلت انشراح إلى بيت الزوجية بالعريش حيث كان يعمل إبراهيم كاتب حسابات بمديرية العمل بالعريش وهو لم يحصل على الإعدادية مثلها.
لذلك اتفقا على أن يواصل أولادهما تعليمهم حتى أعلى الشهادات العلمية.
في أواخر العام 1955 رزقا بمولودهما الأول نبيل ثم جاء المولود الثاني محمد العام 1956 ثم عادل 1958، وفي العام 1963 اتفقا على إرسال أولادهما إلى عمهم بالقاهرة ليواصلوا تعليمهم ويعيشوا حياة رغدة بعيدا عن البداوة وظروف الحياة الأقل حظا من العاصمة.
أول القصيدة... رشوة
وفي أكتوبر 1966 ضبط إبراهيم وهو يتلقى الرشوة وحبس 3 أشهر وخرج ليكتشف قسوة الظروف والحياة التي يمر بها.
وفي يونيو العام 1967 اجتاحت إسرائيل سيناء واحتلتها وأغلقت أبواب السفر إلى القاهرة، فتأزمت انشراح نفسيا قلقا على أبنائها، وكانت انشراح تبكي معظم الليل والنهار وأوشك جمالها على الذبول ووجد إبراهيم أن الحياة في العريش كما لو كانت في الأسر فمنذ الغزو وهو عاطل عن العمل لا يملك المال الذي يشتري به الشاي.
ووسط هذا المناخ كانت المخابرات الإسرائيلية تعمل بنشاط زائد وتسعى لتصيد العملاء بسبب الضغوط المعيشية الصعبة وظروف الاحتلال، وكانت التصاريح التي يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة وأصبح السفر للقاهرة يحتاج لمعجزة.
ضاقت الحياة على إبراهيم وانشراح في العريش وخلا البيت من الطعام والشراب، وازداد بؤسا وشوقا إلى الأبناء في القاهرة.
واندفع إبراهيم إلى مكتب الحاكم العسكري يطلب تصريحا له ولزوجته بالسفر إلى القاهرة، ولكنهم ماطلوه فصرخ في وجه الضابط الإسرائيلي قائلا: إنه فقد عمله ودخله ولا يملك قوت يومه، فطمأنه الضابط «أبونعيم» ووعده بالنظر في أمر التصريح في أسرع وقت، وحاول إبراهيم التقرب إلى الضابط لإنجاز التصريح وأمر له أبونعيم بجوال من الدقيق وبعض أكياس الشاي والسكر فحملها إبراهيم فرحا لزوجته وهو يزف لها نبأ السفر إلى القاهرة قريبا.
وعود... لا تنفذ
لكن الأيام مرت وأبونعيم لا ينفذ وعوده وفي كل مرة يذهب فيها إبراهيم لأبونعيم يعود محملا بأكياس المواد التموينية التي أصبحت المصدر الوحيد لإعاشته وزوجته... وذات صباح فوجئ بمن يستدعيه لمكتب أبونعيم، وأخبره الضابط بأن الحاكم العسكري وافق على منحه تصريح السفر هو وزوجته.
وبعد أن فرح إبراهيم أخبره أبونعيم أن الموافقة مشروطة بأن يكون متعاونا ويأتيه بأسعار الفاكهة والخضراوات في مصر والحالة الاقتصادية للبلد بواسطة أخيه الذي يعمل بالاستيراد والتصدير، فوافق إبراهيم على الفور، مؤكدا أنه يمكن أن يأتيهم بأكثر من ذلك لو أرادو.
وهنا تأكد الضابط الإسرائيلي أن إبراهيم قد نجح في الاختبار الأول وكان عليه أن يحيله إلى الضابط المختص لإكمال المهمة، فدوره ينحصر فقط على «الفرز» لا أكثر، بينما كان إبراهيم وانشراح يحتفلان بالأمل الجديد... توقفت سيارة جيب أمام منزلهما، وطلب منه جندي أن يرافقه إلى مكتب الأمن، وهناك كان ينتظره ضابط يدعى «أبويعقوب» بالغ في الاحتفاء به بدعوى أن أبو نعيم أوصاه به خيرا، وامتد بينهما الحوار لوقت طويل.
وطلب منه أبويعقوب أن يذهب معه إلى بئر سبع، حيث المكتب الرئيسي للأمن المختص بالتعامل مع أبناء سيناء، وهناك أكرموه ولوحوا له بإغراءات ما كان يحلم بمثلها، ونظير إغراقه بالنقود وتأمين حياته وذويه في العريش وافق إبراهيم على التعاون مع الإسرائيليين في جمع المعلومات عن مصر وتسلم 1000 دولار كدفعة أولى في الوقت الذي لم يمكن يملك فيه شيئا.
استعداد للخيانة
كان إبراهيم لديه الاستعداد الفطري للخيانة لمجرد منفعة مادية موقتة، وفي بئر سبع تغير المشهد، إذ تحول إبراهيم شاهين من مواطن يسعى للحصول على تصريح بالسفر إلى القاهرة إلى جاسوس لإسرائيل وعين لها على وطنه، وأخضع إبراهيم لدورة تدريبية مكثفة تعلم أثناءها الكتابة بالحبر السري وتظهير الرسائل ووسائل جمع المعلومات من الأهل والأصدقاء.
درب أيضا على كيفية التمييز بين الطائرات والأسلحة المختلفة، واجتاز العميل الدورة بنجاح مذهل، فأثنوا عليه ووعدوه بالثراء وبالمستقبل الرائع، وبحمايته في القاهرة حتى وهو بين ذويه، ودربوه أيضا على كيفية بث الإشاعات وإطلاق النكات السياسية التي تسخر من الجيش والقيادة إلى جانب الاحتراز وامتلاك الحس الأمني العالي.
ولقنوه شكل الاستجواب الذي سيتعرض له حال وصوله إلى القاهرة من قبل أجهزة الأمن، وكيف ستكون إجاباته التي لا تثير الشكوك من حوله، وسرعان ما فرحت الزوجة بالهدايا التي حملها زوجها كمكافأة له من اليهود على إرشاده عن مخبأ فدائي مصري.
رحلة القاهرة
وفي 19 نوفمبر 1967 وصل إبراهيم وإنشراح إلى القاهرة بواسطة الصليب الأحمر الدولي، فمنح سكنا مجانيا موقتا في حيّ المطرية «شرق القاهرة»، ثم أعيد إلى وظيفته من جديد بعدما نقلت محافظة سيناء مكاتبها من العريش إلى القاهرة، وبعدما استقرت الأمور قليلا انتقل إبراهيم إلى حيّ الأميرية «شمال القاهرة» المزدحم ومن خلال المحيطين به في العمل والمسكن بدأ في جمع المعلومات وتصنيفها وكانت زوجته تساعده بتهيئة الجو الآمن لكتابة رسائله بالحبر السري، وكثيرا ما كانت تعيد صياغة بعض الجمل بأسلوب أفضل، وتكتب أيضا حياتها إلى الموساد على أنها شريكة في العمل واعتاد إبراهيم أن يختتم رسائله بعبارة «تحيا إسرائيل العظمى... موسى».
ولأجل التغطية اتجه إبراهيم إلى تجارة الملابس والأدوات الكهربائية وبواسطة المال والهدايا كان يتغيب كثيرا عن العمل غالبية أيام الأسبوع ولأشهر عديدة تواصلت الرسائل إلى روما مزدحمة بالأخبار، ما دفع رجال الموساد لدعوته لروما لاستثمار هذا الثنائي الرائع في مهام أكثر أهمية.
ستار التجارة
وفي أغسطس 1968 وتحت ستار التجارة سافر إبراهيم وانشراح إلى لبنان ومنها طارا إلى روما... حيث التقيا بمندوب الموساد الذي سلمهما وثيقتي سفر إسرائيليتين باسم موسى عمر ودينا عمر... وعلى طائرة شركة العال الإسرائيلية طارا إلى مطار تل أبيب واستقبلا في إسرائيل ببالغ الحفاوة، وأنزلا بفيلا خيالية في تل أبيب مكثا بها ثمانية أيام، حصلا خلالها على دورة تدريبية مكثفة في تحديد أنواع الطائرات والأسلحة والتصوير الفوتوغرافي وجمع المعلومات.
ومنح إبراهيم رتبة عقيد في الجيش الإسرائيلي باسم موسى، أما انشراح فقد منحت رتبة ملازم أول باسم دينا.
وفي مقابلة مع أحد القيادات العليا في الموساد أكدت انشراح على ضرورة زيادة المكافآت لاشتراكها في العمل يدا بيد مع إبراهيم ونظرا لأهمية المعلومات التي حصلوا عليها من خلال الجاسوس وزوجته، فقرروا لهما مكافأة سخية وأغدقوا عليهما بالآلاف من الدولارات التي عادا بها إلى القاهرة، حيث استغلا وجودهما وسط حيّ شعبي فقير في عمل الصداقات مع ذوي المراكز الحساسة من سكان الحيّ... وإرسال كل ما يصل إليهما من معلومات إلى الموساد فورا.
في الفترة من 1967 حتى 1970 برعا في التحليل والتصنيف وتصوير المنشآت العسكرية أثناء رحلات للأسرة بالسيارة الجديدة «فيات 124».
وفي حديث نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية العام 1997 يقول الابن الأصغر عادل: «إنه في صيف 1969 طيلة حياتي لن أنسى ذلك اليوم الملعون، فقد استيقظت مبكرا على صوت همسات تنبعث في حجرة نوم والدي، كان أبي يحاول إدخال كاميرا إلى داخلها لم أر مثلها قبل ذلك، وكانت أمي في غاية العصبية.
وقالت له: ليس كذلك هكذا سيرون الكاميرا، فأخرج أبي الكاميرا وأدخلها مرات ومرات إلى الحقيبة فجلست أنظر إليهما وهما يتناقشان، ثم قال لي أبي نحن ذاهبون في رحلة إلى الإسكندرية.
تصوير أماكن مهمة
وكان الوالد والوالدة في غاية القلق ولم أرهما متوترين إلى هذا الحد من قبل، وفي تلك الفترة كانت هناك قواعد عسكرية ومصانع حربية كثيرة متناثرة حول الطرق الرئيسية في مصر.
وأخرجت أمي الكاميرا وأمرها أبي قائلا «صوري يلاّ صوري» فقالت له وأصابعها ترتعش: «سنذهب إلى الجحيم بسببك» وحركت أمي الجاكيت المعلق على النافذة وبدأت في التصوير. وحاول محمد أن يسأل ما الذي يحدث لكن الرد الذي تلقاه كان «اسكت» فلم يسأل أي أسئلة أخرى بعد ذلك، وعدنا للبيت سعداء في ذلك اليوم وأغلق أبي الحجرة على نفسه وبعد فترة طويلة خرج وعانق أمي وقال لها «يا حبيبتي لقد قمت بالتقاط صور رائعة للغاية».
وبكت أمي وقالت له: «إلى هنا يجب أن نشرح الأمر للأولاد» وكنا مازلنا في صدمة وغير مدركين لهذه الجلبة التي تحدث.
وتحولت الرحلات الأسرية في أنحاء مصر إلى روتين وكنا نخرج في نهاية كل أسبوع وكنا نسافر إلى الأقصر وأسوان، وليس هناك مكان لم نذهب إليه وأحيانا كان أبي يحصل على اجازة في وسط الأسبوع وكنا نسافر لعدة أيام، وقد صورت قواعد ومنشآت عسكرية في مصر وكان أبي يسجل عدد الكيلو مترات في الطريق وبذلك يحدد موقع المصانع والقواعد العسكرية وكنا نحن الأولاد أفضل تغطية.
زيارات روما
وتعددت زيارات إبراهيم وانشراح إلى روما بعضها كان باستدعاء من الموساد والبعض الآخر كان لاستثمار عشرات الآلاف من الدولارات التي حصلوا عليها من جراء عملهما في التجسس، وفي إحدى الزيارات قررا إشراك ولديهما لزيادة الدخل بتوسيع حجم النشاط ولم يكن من الصعب عليهما تنفيذ ما اتفقا عليه.
وفي صيف 1971 كان عادل وقتها في الثالثة عشرة من عمره وكان نبيل يكبره بعامين ومحمد بعام واحد ويقول عادل: «كطفل لم أعر الأمر أهمية خاصة لحقيقة أن أبي يعمل مع الإسرائيليين ومثل كل الأولاد كنت قد كبرت وتربيت على كراهية اليهود، لكن في البيت تلقيت تربية أخرى فقد عرفت أن الإسرائيليين هم المسؤولون عن الطعام الذي آكله والملابس التي أرتديها والهدايا التي أتلقاها لذلك شعرت بأنني محظوظ، وعندما كبرت بدأت في إدراك معنى عمل أبي وبدأ الخوف يزداد أكثر وأكثر وأدركت أنهم لو ضبطونا سيتم شنقنا... وهكذا انخرطت الأسرة كلها في التجسس.
أصرت انشراح على الانتقال من الحي الشعبي الفقير إلى آخر أكثر رقيا وثراء، وعندما اعترض زوجها قالت له دعنا نستمتع بالحياة فربما ضبطونا، وفي النهاية انتقلوا إلى فيلا فاخرة بمدينة نصر «شرق القاهرة» ونقل نبيل ومحمد وعادل مدارسهم إلى الحيّ الراقي الجديد، واحتفظ إبراهيم شاهين بعلاقاته القديمة وأقام أخرى جديدة.
وامتلأ البيت مرة أخرى بالأصدقاء من رجال الجيش والطيارين وتحول أولاده إلى جواسيس صغار يتنافسون على جلب المعلومات من زملائهم أبناء الضباط في المدارس والشوارع، ومناوبة الحراسة ريثما ينتهي أبوهم من تحميض الأفلام.
فكان نبيل يتولى المراقبة من الخارج وعادل من داخل البيت، وحصل نبيل على أدوار أكثر جدية فكان أبوه يسمح له بكتابة الرسائل بالحبر السري وتظهيرها وصياغة التقارير وتحميض الصور.
وذات مساء بينما هم جميعا أمام التلفزيون عرض بالتلفزيون فجأة فيلم تسجيلي عن أحد الجواسيس وانتهى الأمر بإعدامه شنقا وطوال وقت عرض الفيلم انتابتهم حالة صمت تضج بالرعب والفزع واستمروا على تلك الحال لأسابيع طويلة وامتنعوا خلالها عن كتابة التقارير أو الرسائل... حتى تضخم لديهم الخوف وأصيبوا بالصداع المستمر ومرض إبراهيم... فاضطرت إنشراح للسفر وحدها إلى روما تحمل العديد من الأفلام التي خبأتها داخل مشغولات خشبية.
أزمة نفسية
كانت الرحلة لروما منفثا ضرورية... لخروج إنشراح من أزمتها النفسية السيئة، وفي الوقت نفسه لتطلب من رجال الموساد السماح لهم بالتوقف عن العمل فلما التقت بأبو يعقوب ضابط الموساد «الداهية»... قصت عليه معاناتهم جميعا ومدى خوفهم فطمأنها الضابط ووعدها بعرض الأمر على الرئاسة في تل أبيب.
وصحبها إلى ناد ليلي... فرقصت وشربت لتنسى همومها، وعادت معه آخر الليل ثملة لا تعي ما حولها.
وفي الصباح وجدت نفسها عارية بين أحضانه فبكت، ومع أحضانه الدافئة تكرر المشهد وهي بكامل وعيها، فذاقت للجنس طعما جديدا لا تعرفه ولم تتذوقه مع زوجها الذي انشغل عنها ولم يعد يهتم بها وعادت بعد ذلك للقاهرة وهي محملة بآلاف الدولارات.
وفي روما طلبت انشراح من أبو يعقوب أن يرسل في طلبها بمفردها في المرات المقبلة، وهكذا نسيت انشراح رغبتها في اعتزال الجاسوسية، واستمرأت مذاق اللذة الجامحة مع ضابط الموساد الذي لجأ إلى ذلك لرغبته في احتوائها وضمان ولائها لإسرائيل.
وفي آخر سبتمبر 1973 كانت إنشراح بمفردها في رحلة أخرى إلى روما فاستقبلها أبويعقوب المسؤول عن توجيهها واستلام التقارير والأفلام منها، وفاجأها أبو يعقوب بنبأ هجوم الجيش المصري والسوري على إسرائيل، وأن احتمال القضاء على دولة اليهود أصبح وشيكا وكان يقول لها ذلك وهو يبكي ويرتعد جسده انفعالا فأخذت تواسيه وتبكي لأجله ولأجل إسرائيل.
إلى تركيا
وفي أبريل 1974 اقترحت إنشراح على أسرتها السفر إلى تركيا للسياحة وبينما هم في أنقرة اتصل بهم أبو يعقوب وطلب من إبراهيم أن يسافر إلى أثينا لمقابلته ومن هناك سافر إلى إسرائيل وفي مبنى المخابرات الإسرائيلية سألوه عن كيفية عدم تبين الاستعدادات للحرب في مصر.
وبعد اجتماع مطول قرر قادة الموساد تسليم إبراهيم أحدث جهاز إرسال لاسلكي في العالم يتعدى ثمنه المئة ألف دولار، فلقد كان لديهم مخاوف تجاه الفريق سعد الدين الشاذلي الذي يريد تصعيد الحرب والوصول لأبعد مدى في سيناء مهما كانت النتائج ودرب إبراهيم لمدة 3 أيام على كيفية استخدام الجهاز.
وعندما كان إبراهيم يحاول إرسال أولى برقياته إلى إسرائيل بواسطة الجهاز استطاعت المخابرات المصرية التقاط ذبذبات الجهاز بواسطة اختراع سوفيتي متطور جدا اسمه «صائد الموجات» وقامت القوات بتمشيط المنطقة بالكامل بحثا عن هذا الجاسوس ومع محاولة تجربة الجهاز للمرة الثانية أمكن الوصول لإبراهيم بسهولة.
وفي فجر 5 أغسطس 1974 كانت قوة أمنية تقف على رأس إبراهيم النائم في سريره واستيقط مذعورا وفي الحال ودون أن توجه إليه كلمة واحدة في هلع أخذ يردد... أنا غلطان... أنا ندمان «الجوع كان السبب... النكسة كانت السبب... اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي».
النهاية الطبيعية
ولما فتشوا البيت عثروا على جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة والتزم إبراهيم الصمت وكان بدنه كله يرتجف وسحبوه في هدوء للتحقيق معه... بينما بقيت قوة من قوى الأمن في المنزل مع أولاده الثلاثة تنتظر وصول انشراح... تأكل وتشرب وتنام دون أن يحس بهم أحد.
وعلى طائرة إيطاليا رحلة 791 في 24 أغسطس 1974 وصلت انشراح إلى مطار القاهرة الدولي قادمة من روما بعد شهر كامل بعيدا عن مصر، تدفع أمامها عربة تزدحم بحقائب الملابس والهدايا ونظرت حولها فلم تجد زوجها.
فذهبت للمنزل وهمت بفتح الباب لكنها وقفت بلا حراك وبالت على نفسها عندما تقدم أحدهم وأمسك بحقيبة يدها وأخرج منها مفتاحين للجهاز اللاسلكي بدلا من مفتاح واحد.
وكانت بالحقيبة عدة آلاف من الدولارات دسها الضابط وتناول القيد الحديدي من زميله وتوقفت الكلمات على لسانها فكانت تتمتم وتهذى بكلمات غير مفهومة وقادوها مع ولديها... وهناك جرى التحقيق مع الأسرة كلها.
وفي 25 نوفمبر 1974 صدر الحكم بإعدام انشراح وزوجها شنقا والسجن 5 سنوات للابن نبيل وتحويل عادل ومحمد لمحكمة الأحداث وفي 16 يناير 1977 سيق إبراهيم إلى سجن الاستئناف لتنفيذ الحكم وكان لا يقوى على المشي... وكان خائفا يرتعد وكان ينتظر تنفيذ الحكم وهو في شدة الهلع وكان دائما يردد «أنا غلطان أنا ندمان».
وعندما جاء يوم تنفيذ حكم الإعدام كان يجره «2» من الجنود وساقاه تزحفان خلفه بينما هو يضحك في هستريا، ثم يبكي وبعدما تيقن من أنه سوف يعدم أخذ يردد آيات من القرآن الكريم بكلمات غير مفهومة ثم صاح في انهيار... «سامحني يا رب»... وتلا عليه مأمور السجن منطوق الحكم... ثم ردد الشهادتين وراء واعظ السجن عندئذ عرضوا عليه آخر طلب له قبل إعدامه فطلب سيجارة.
وبعد أن انتهى من تدخينها جروه جرا إلى داخل غرفة الإعدام... فقام عشماوي بتقييد يديه خلف ظهره، ثم ألبسه الكيس الأسود ووضع الحبل على رقبته وشد ذراعيه فانفتحت طاقة جهنم تحت رجليه وظل الجسد في الهواء معلقا يتأرجح إلى أن خمد وسكن واستمر النبض 3 دقائق و10 ثوان بعد التنفيذ حتى أعلن طبيب السجن وفاة «الجاسوس» الذي ظل يتعامل مع الموساد طوال 7 سنوات.