حوار / «الراي» تفتح مع «صوت العرب» خزانة الذكريات (1 من 6)
نجاح سلام: عبدالوهاب أجبر والدي على السماح لي بالغناء!
| بيروت - من هيام بنوت |
1 يناير 1970
01:52 م
عندما علم والدي أنني في كورال الكنيسة بمدرسة «زهرة الإحسان» عاتب مدام ماري أسود وقال لها «أنا حاطط بنتي عندكم لحتى تتعلم مش لتغني»
أجبرني والدي على ترك المدرسة وأحضر لي محمد سلمان كأستاذ في اللغتين العربية والفرنسية
جدي كان أمين دار الإفتاء... أي بمقام المفتي ولم يكن يعقل أن تغني حفيدته فهذا كان يعتبر كارثة
لفتُّ نظر عبدالوهاب عندما أخذت «أنطنط» وراء مجموعة كانت ملتفّة حوله في الإذاعة اللبنانية... فسمع صوتي
والدي قال لي: «بكسر إجريكي إذا بتفكري تطلعي معي عند محمد عبدالوهاب على بحمدون»
أغنية «حوِّل يا غنام» كانت اللحن الوحيد لإيليا المتني... الحلاق
ليست مجرّد مطربة كبيرة، بل هي مدينة فنية في حد ذاتها! والغناء عندها ليس فقط وسيلة للإمتاع والترفيه، بل هو ثقافة راقية، ونوع من النضال، ومواكبة نبيلة لتاريخ أمتها العربية. إنها المطربة اللبنانية القديرة نجاح سلام، التي شكلت واحدةً من «منارات» الفنّ العربي، وهي التي انطبعت مسيرتها بنجاحات باهرة استمرّ صداها يتردد، منذ قرابة 70 عاماً، رغم انكفائها في الفترة الأخيرة.
نحو 5 آلاف أغنية وعشرات الأفلام السينمائية، كلّها ساهمت في تكريس ريادية هذه المطربة التي بدأت مشوارها الغنائي في العام 1948، ولم تكن بعد تجاوزت الـ 17 عاماً، لتُراكِم سنة وراء سنة رصيداً فنياً طبع اسمها بـ «أحرف من ذهب» رصّعته عشرات الأوسمة وشهادات التقدير، إضافة إلى ألقاب استحقتها نتيجة مواقفها الداعمة للحركات الثورية العربية ولفلسطين وقضيّتها قبل النكبة وبعدها، وللمقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، وبينها لقب «المطربة الفدائية» و«مطربة العروبة» و«صوت العرب».
سلام، التي غنّت لبنان، لم تبخل بصوتها الذي قدّم لمصر «يا أحلى اسم في الوجود يا مصر»، ولسورية «سورية يا حبيبتي»، وللجزائر «محلى الغنا بعد الرصاص ما تكلم»... وغيرها من الأغنيات للعديد من الدول العربية التي بادلتها الوفاء إما بمنحها الجنسية كما فعلت مصر، أو بتقليدها الأوسمة ومنها «الإخلاص والشرف» من سورية، و«جوقة الشرف» من فرنسا، ومفتاح «مدينة نيوجرسي» و«الأوسكار العربي» من أميركا، وشهادة مجمع اللغة العربية - الجامعة العربية في القاهرة (شهادة لم تُمنح لسواها من مطربي ومطربات الوطن العربي) ووسام «الشهيد» من الجزائر وغيرها من دروع التقدير وشهادات الوفاء.
أما لبنان، الذي كان كرّمها مرات عدة حيث نالت وسام الاستحقاق الوطني اللبناني المذهّب و«وسام الأَرز من رتبة كوموندور»، فأبى إلا أن يردّ التحية لها قبل أشهر قليلة بأعلى صوت، حين أقام لها حفل تكريم حاشداً رعاه وحضره وزير الثقافة وجهات رسمية لبنانية وعربية وسط حضور شعبي كثيف، وهو التكريم الذي وصفته سلام بأنه «الأهمّ في مشوارها الفني»، لأنه جاء من جهة فنية - موسيقية - غنائية هي الأعلى في وطنها لبنان (المعهد الوطني العالي للموسيقى). «الراي» التقت هذه القامة الفنية الكبيرة في حوار ذكريات تنشره على حلقات:
• فلنبدأ من الخطوات الأولى، وأنتِ تنتمين إلى عائلة محافظة، وعندما دخلتِ الفن كانت العائلات تستعيب من عمل بناتهن الفنانات فيه. فكيف تتحدثين عن بداية مشوارك الفني؟
- في الماضي كانت هناك قيود على الفن، وأنا بدأتُ مسيرتي الاحترافية في العام 1948، وكان عمري 17 عاماً، إذ إنني من مواليد 1931.
وفي المرحلة التي سبقتها، مررتُ بمحطات عدة أهّلتني للوصول إلى الاحتراف. كنتُ تلميذة عند راهبات «زهرة الإحسان»، ومنذ نشأتي كنتُ أحب الغناء.
ولفت صوتي مديرة الكورال في الكنيسة «مدام ماري أسود»، فضمّتني إلى الكورال، واعتبرتني مغنية «السولو» فيه. وفي العام 1945، أقيمت في «الإذاعة اللبنانية» مسابقة على مستوى المدارس، فرشّحتني مدام ماري أسود لخوض المباراة مع كورال المدرسة. ولكنني لم أتوقع أن يكون والدي هو المشرف على المباراة، باعتبار أنه رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية وأحد مؤسسي الإذاعة. يومها فوجئ والدي بأنني أغني، فغضب غضباً شديداً، وعاتَب مدام ماري أسود، وقال لها: «أنا حاطط بنتي عندكم لحتى تتعلم ومش لحتى تغني».
وما كان منه إلا أن أجبرني على ترك المدرسة والمكوث في البيت، وأَحضر لي أستاذاً في اللغتين العربية والفرنسية اسمه محمد سلمان.
• والذي أصبح زوجك لاحقاً؟
- نعم، كما كان محمد سلمان مغنياً في الإذاعة، وكان والدي يحبه كثيراً ويعطف عليه ويساعده، لأنه أتى من الجنوب إلى بيروت ويسعى إلى شقّ طريقه. وأذكر أنني «عملت فيه مقالب طفولية لا تُحصى ولا تُعد»، كأن أضع له الدبابيس في الكرسي الذي كان يجلس عليه، أو «فرقيع» (ألعاب نارية) تحتها، كي يطفش وأعود إلى المدرسة وأغني مع الكورال.
• ولماذا عارض والدك غناءك بما أنه كان فناناً؟
- والد والدي، تُوُفي في العام 1941، ولم تكن تفصل مسافة زمنية كبيرة بين هذا العام والعام 1947. وجدّي كان أمين دار الإفتاء، أي بمقام المفتي، ولم يكن يُعقل أن تغني حفيدة المفتي، بل هذا الأمر كان يُعتبر كارثة من الكوارث.
• ولكن والدك كان يعمل في الفن؟
- وظيفة والدي كانت إدارية. وهو كان بارعاً جداً في العزف على العود، بل هو أستاذ في العزف عليه، حتى أن الشيخ زكريا أحمد قال له،
عندما استمع إلى عزفه: «أكيد أنت مش محيي الدين... أكيد أنت الجن». والدي كان يكتفي بالعزف بين الأهل والأصدقاء وليس في أماكن عامة. وفي ظل ممانعة والدي، كنتُ ألجأ إلى والدتي التي كانت تعرف أنني أملك صوتاً جميلاً ومميزاً وله سمة خاصة، ولكن لم تكن تستطيع أن تقول لوالدي مثل هذا الكلام، ولذلك فضّلتْ أن تدخل في الموضوع من باب آخر، وقالت له: «بدل ما البنت قاعدة لا شغلة ولا عملة، نزّلها معك على الإذاعة وبتشتغل أي شي»، فاقتنع والدي واصطحبني معه كي أعمل كطابعة على الآلة الكاتبة. ففرحتُ فرحاً لا يمكن وصفه، إذ من المفترض أنني سأشاهد الفنانين وأسمع أصواتهم.
• وماذا حلّ بمحمد سلمان؟
- ظلّ صديقاً للعائلة. هو كان بمنزلة فرد من العائلة. وفي أواخر العام 1947 حضر محمد عبدالوهاب إلى لبنان، وكعادته قصد الإذاعة اللبنانية واجتمع بوالدي وكرر عليه السؤال الذي يطرحه كل مرة: «عندك إيه جديد يا محيي؟»، فأسمعه والدي صوتين، صوتاً لمطرب اسمه صابر الصفح وصوت زكية حمدان، فأعجب بهما، وقال لوالدي «كويسين جداً... بس مش ده اللي عاوزه. عندك حد تاني؟». ولفتُّ نظره عندما أخذتُ «أنطنط» وأرفع إصبعي وراء المجموعة التي كانت ملتفّة حوله هو ووالدي، فقال لي: «تعالي». ولم يخطر ببال والدي ما الذي يمكن أن يحصل، بل اعتقد أنني فرحتُ برؤية محمد عبدالوهاب الذي سألني: «اسمك إيه يا شاطرة؟»، فرددتُ عليه: «نجاح»، فتابع: «نجاح إيه»، فأجبتُ «نجاح سلام»، فالتفت إلى والدي وسأله: «هل هي قريبتك؟»، فردّ عليه: «ابنتي». ثم عاد وسألني:«عاوزه تقولي إيه يا نجاح؟»، فقلت له: «أنا برضه بغني»، فقال: «تغني لمين»، فأجبتُ «لحضرتك». وأديت أغنيتين له،
فالتفت إلى والدي قائلاً: «النهاردة بالليل مستنيكم عالعشا عندي في أوتيل الأمبسادور في بحمدون. حتجيب نجاح وتيجي. في كلام كتير بيني وبينك». وأذكر أنه كان برفقة عبدالوهاب محمد الكحلاوي، والشيخ زكريا أحمد، والأخطل الصغير ومعهم مصباح سلام شقيق صائب بك سلام، والتفت عبدالوهاب وقال: «يا مصباح، بكرا حاعتمد عليك تطلع المزموزيل نجاح لفوق»، فقال له: «إن شاء الله».
• لا شك أن «العلقة» كانت كبيرة مع والدك؟
- أكثر مما تتصوّرين. صراخ وتهديد وقال لي: «بدك تبهدلينا. انتِ ناسية مين جدّك؟». فحاولتْ والدتي أن تهدئ من روعه وقالت له إنها طفلة. ثم بلغ به الغضب حد أن قال لي: «بكسّر اجريكي اذا بتفكري تطلعي معي عند محمد عبدالوهاب على بحمدون». ولكن قبل الموعد بقليل فوجئنا بمصباح سلام، يزورنا
في بيتنا، بطلب من محمد عبدالوهاب. فسأله والدي: «خير اشبك شي؟»، فردّ عليه: «جايي أضمن أن نجاح رح تطلع معك. وإذا ما طلعتها أنا رح طلعها». فخضع والدي للأمر الواقع، واجتمعنا بمحمد عبدالوهاب وعدنا وكان والدي صار مقتنعاً بغنائي.
• وكيف أقنعه محمد عبدالوهاب؟
- قال له الجملة التالية: «ربنا بيخلق كل يوم 10 آلاف مهندس و10 آلاف محامٍ و10 آلاف طبيب، ولكنه لا يخلق 10 آلاف فنان، بل فناناً واحداً مميزاً. والدكَ شيخ وأنا أبي شيخ وغنيت». وطلب من والدي أن يتبناني فنياً، وأن أدخل الفن
من خلال رعايته وتوجيهاته. وقال لي: «وعد مني يا نجاح عندما تنزلين مصر أول لحن سيكون مني». وهذا ما جعل والدي يقتنع أكثر بأنني أملك شيئاً ما. ومن ثم بدأ والدي يحضّرني للغناء من خلال تَعلُّم مخارج الحروف وحسن اللفظ، والوقوف على المسرح، كما علّمني المقامات والعزف على العود، والانتقال من مقام إلى آخر، والموال، وبعدها قال لي: «يمكنك الآن أن أعرّفك على الملحنين». وكان إيليا المتني أول شخص يدخل بيتنا في البسطة، وهو ملحن مجهول الهوية. لم تكن له ألحان سابقة، بل عرض على والدي أن يسمعه لحناً، وفي حال أعجبه، قال لي يمكن أن أغنيه.
• وكيف تعرف والدك على إيليا المتني؟
- هو كان يسكن في الحي نفسه حيث نقيم في البسطة، ويعمل كحلاق. كل حلاق، من حلاقي أيام زمان، كان يملك آلة موسيقية في محله ويعزف عليها، من قبيل الهواية. فأسمعه لحن «حوّل يا غنام»، وأُعجب به والدي كثيراً. إيليا المتني لم يدرس الموسيقى ولا يعرف في المقامات، ولذلك كان هذا اللحن هو الوحيد في حياته. وانطلاقة هذه الأغنية بدأت من الإذاعة اللبنانية، ثم تحولت إلى أسطوانة على «بيضافون»، ولأن الأسطوانة وجهان، سجّلنا على الوجه الثاني أغنية «يا جارحة قلبي» للراحل فيلمون وهبي، الذي أتى من إذاعة القدس والتحق بالإذاعة اللبنانية كمطرب وملحن. وهذه الأغنية كان يؤديها بصوته في إذاعة القدس، وهي أغنية شعبية طربية.
هذان اللحنان انطلقا في لبنان بشكل لا يوصف، ومن بعدهما تلقيتُ عقداً من الإذاعة السورية، للغناء في سورية. ففرح والدي كثيراً، وتمنى لو أن انطلاقتي كانت في الإذاعة السورية، كي ينسى الناس أن حفيدة الشيخ تغني. ولذلك، كان يوافق على العقود التي كانت تصلني من العراق وسورية وفلسطين، وعدتُ إلى لبنان بعد عشر سنوات من مغادرتي له.
غداً
• بكيتُ عندما شاهدتُ صورتي في صحراء العراق!
• كنتُ مشهورةً بينما كانت فيروز لا تزال تغني في «الكورس»
• «أمير البزق» ألّف لي لحن «رقة حسنك وسمارك» وقد رقصتْ عليه دمشق عن بكرة أبيها