طيب الكسب والمكسب

1 يناير 1970 07:02 م
إن كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه. وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله، (وءاخرون يَضْرِبُونَ فِى ?لأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَ?قْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل:20]. وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري، ولقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة، والاستغناء عن الناس بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ وعزٌّ منيفٌ. حتى قال الخليفة المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري. ومن مأثور حكم لقمان: يا بنيَّ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته، ومن المعلوم أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين؛ فقال عزَّ من قائل: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً [المؤمنون:51] وقال عزَّ شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أكل طيباً وعمل في سنَّة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة)) وأخرج أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفةٌ في طعمة)) إن طلب الحلال وتحريه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً وينفق في حلال، فهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة: ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت. فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: ((لو لم تخرج إلامع نفسي لأخرجتها. اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء)). وشرب عمر لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وتوصي بعض الصالحات زوجها وتقول: (( يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار ))، إن أكل الحرام يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، وإن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والجماعة؛ تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث. أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء، ففي الحديث الصحيح عند البخاري والنسائي: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)) [6]. زاد رزين: ((فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة)) فحقٌ على كل مسلم تحري الحلال والبعد عن المشتبه، والحفاظ على حقوق الناس، وإنجاز الأعمال، والوفاء بالعقود والعهود، واجتناب الغش والتدليس، والمماطلة والتأخير، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصحُّ به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.

* دكتوراه في الفقه المقارن وأصول الفقه