خواطر تقرع الأجراس / أقانيم الإبداع

1 يناير 1970 02:44 م
يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري: «ليس الذئب سوى مجموعة من الخراف المهضومة». قول يغري ببحث قضية القراءة والتفكير والإبداع، بعيداً عن الذئاب والخراف. وقد قال أحد النقاد العرب عن العقاد غامزاً من عبقريته: «إنه لا يستطيع الكتابة دون قراءة»! وكأن القراءة، للمبدع والمفكر والشاعر بل والعالِم، مثبِّطة للإبداع. وهل هناك إبداع من فراغ؟ حتى التفكير التأملي في الطبيعة والكون والحياة نوع من القراءة الصامتة... ثم يليها الإبداع.

الأنبياء والعلماء والشعراء... تأملوا وقرؤوا كتاب الطبيعة، واستنبطوا مظاهرها، ثم استنبطوا أسرارها. فلنتذكّرْ أن أول كلمة في القرآن الكريم (اقرأ).

بدأت القراءة الإنسانية البدائية تأملاً سحرياً في الطبيعة وما تخفيه، وفي الكون وما يبديه. ثم جاءت العبقرية الإنسانية الفذة حين اخترع الحروف التصويرية، ثم جرّدها رموزاً تنبئ عن عبقرية ميّزته عن سائر المخلوقات. فكانت اللغة بأصواتها ورموزها وتراكيبها ونحوها وصرفها... ثم امتزجت القراءة بها امتزاج النور بالأثير. وهل تستطيع فصل الشمس عن نورها؟

وهناك أقوال مشهورة ومتناقضة لعظماء حول: هل القراءة عائق أمام التفكير والإبداع؟ أم هي محفِّز ومحرِّض عليه؟. يقول كلود برنار مؤسس الطب التجريبي: «إن ما نعرفه هو الذي يعرقلنا، لا ما نجهله». ويقول الشاعر الإنكليزي بَيرون: «هل لأكون مبتكراً يجب أن أقرأ قليلاً وأفكر كثيراً؟ هذا مستحيل، يجب أن يقرأ الإنسان قبل أن يتعلم التفكير».

ويقرر برناردشو: «القراءة تعطي العقل». وفرنسيس بيكون: «اقرأْ، لا لتعارض وتفنِّد، ولا لتؤمن وتسلِّم، بل لتفكر وتزن». وللفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر قول غريب: «إن تعلم اللغات يعرقل نمو ملكة الحكم المستقل لدينا»!

من استعراض هذه الأقوال يتبين لنا رأيان مختلفان بل ومتناقضان. لكن الراجح هو ضرورة القراءة والتفكير. وفي عصرنا الحديث بالذات تأتي القراءة أولاً.

ونقادنا القدماء ألحّوا على الشعراء المبتدئين أن يقرؤوا بل ويحفظوا روائع التراث الشعري لشحذ القريحة، والارتقاء بها إلى معارج ملكوت الشعر.

والأنبياء جاؤوا ليتمموا مكارم الأخلاق، كما في الرسالة الإسلامية الخاتمة للأديان. والعلماء يرجعون إلى قراءة نظريات وبحوث من سبقهم من العلماء، لا ليجتروا ما يقرؤونه، بل ليفكروا ويزنوا ثم تأتي إشراقة الابتكار. وكل من قرأ سيرة العلماء يدرك هذه الحقيقة. اقرأ مثلاً قضية الإبصار ونظرية الضوء عند أرسطو، ثم اقرأ ما قرره العالِم العربي الفذ ابن الهيثم في كتابه «المناظر»، الذي قرأ نظرية أرسطو، ووازنْ بين النظريتين تجدْ أن ابن الهيثم رفض، بل نسف، نظرية أرسطو وتفرّد بنظرية مبتكرة من إبداعه قررها العلم الحديث. واقرأ ما كتبته المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) عن هذه القضية في كتابها الرائع: (شمس العرب تسطع على الغرب) تجدْ أيضاً كيف أن القراءة ثم التفكير الحر، والتجريب وتقرير النظرية أمور متلازمة في الإبداع.

أما رأي هربرت سبنسر في تعلم اللغات فرأي غريب عجيب؛ فعلماء التربية والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والثقافة يرون أن تعلم اللغات يفتّق ملكة التفكير والإبداع عند الإنسان من الطفولة؛ ولهذا تقرر كثير من الدول المتقدمة تعليم أكثر من لغة لأطفالها، والدراسات تثبت تفوقاً عقلياً عند من يتعلم أكثر من لغة بالمقارنة مع من لا يعرف سوى لغته، إن أتقنها أصلاً كما عندنا! فالإنسان بتعدد اللسان.

فلنعوّد أطفالنا على القراءة المستمرة، والتفكير الخلاق، وتعلم اللغات. وتلك أقانيم الإبداع.

* كاتب سوري