على أبواب عشماوي
ليلة إعدام عزت حنفي... إمبراطور النخيلة / 9
1 يناير 1970
06:10 م
| القاهرة - من حنان عبدالهادي |
هل تستيقظ الضمائر؟... هل تقترب أبواب التوبة؟... أم أنها الصدمة فقط وحدها... هي التي يمكن أن توقظ الضمائر... أم أنه حبل المشنقة... هو الذي يأخذ المذنب... إلى طريق مختلف... يحاول من خلاله أن يؤكد ندمه على ما فعله؟
أسئلة كثيرة... نطرحها... ونحن نبحث في أمر الدقائق الأخيرة... في حياة القتلة والسفاحين والإرهابيين والخونة... كيف تكون هذه الدقائق... قبل الاقتراب من حبل عشماوي «منفذ عملية الإعدام»!
هل تتبدل أحاسيس... من قتلت زوجها... أو من قتل ولده... أو من خان بلده... أو من كمنت لأبناء جيرانها... أو من اصطادوا الضحايا تباعا وشربوا من دمائهم؟
وإذا بالفعل تبدلت... هل هو الخوف... أم أنه القناعة بالتوبة... قبل مغادرة الحياة... والندم على الأفعال والجرائم... بعد فوات الأوان!
وهل يمكن أن تنفعنا دموع عاشقة قتلت زوجها لتخلو لها الحياة مع «عاشق»... أو من أباح دماء سياح وفجر باصا يقلهم... أو من قدم لعدو معلومات عن بلده؟
القتلة والخونة... قد يذرفون الدمع أنهارا... وقد يطلبون التوبة والصفح والعفو... ولكنهم قتلة... لابد من عقابهم... وحبل المشنقة في انتظارهم... ولعل مشهد إعدام طاغية العراق «صدام حسين»... كان من أشهر هذه المشاهد.
«الراي»... بحثت كثيرا في أوراق قديمة وحديثة... عن أيام... أو ساعات أو حتى دقائق ما قبل الإعدام... ووجدت فيها الكثير من المواقف والحكايات... وعبارات الندم... ورايات سوداء ترفع... وقمصان حمراء تلبس... وشرود ذهني... وذكريات أليمة تجتر... وأيضا وجدت فيها «الإنقاذ»... أو نزول عدالة السماء عن «متهم... ليس متهما»... وفي السطور التالية الكثير:
مهما بلغت قوة وعنفوان المجرم لحظة ارتكابه لجرائمه لكن الأمر يتغير تماما عندما يواجه مصيره المحتوم بالإعدام شنقا... وعلى باب عشماوي تبدأ مشاعر متضاربة من الخوف والرهبة من لقاء الله، ويبدأ المجرم العاتي في الانهيار التام ويزوغ بصره ويبدأ في التلعثم والاستغفار عما اقترفه من جرم... ذلك ما حدث مع مجرمي النخيلة في أسيوط، والتي كانت تسمى بقلعة المخدرات التي أقامها عدد من تجار المخدرات يقودهم عزت حنفي وشقيقه حمدان وآخرون... حيث قاموا بفرض سيطرتهم لعدة سنوات على قرية النخيلة بصعيد مصر... ولهذا قصة طويلة... نحاول التعرف على بعض من ملامحها.
المتهمون قاموا... بزرع المخدرات وأعملوا البطش والقتل في أهالي قرية النخيلة... التابعة لمركز أبوتيج في محافظة أسيوط «وسط صعيد مصر»... فأخافوهم ولم يستطع أي فرد من القرية أن يقف في وجه هؤلاء المجرمين وقام الأهالي بالاستسلام والرضوخ لهم ولطلباتهم خوفا على عائلاتهم حتى إنهم لم يجرأوا على أن يخبروا قوات الأمن بما يحدث لهم عنوة وقهرا فقد يتعرضون وأهاليهم للقتل.
لكن شاء القدر وتمكنت قوات الأمن من القبض على هذه العصابة الخارجة على القانون في العام 2004... بعد مقاومة شديدة من المتهمين لقوات الأمن، وفي العام 2005... أصدرت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ الحكم على عزت وأخيه حمدان حكما بالإعدام شنقا، وعند مواجهة الموت وعلى أبواب عشماوي لم يصدق كل منهما أنه مقضي عليه فانهار عزت وصرخ حمدان لكنهما لقيا مصيرهما المحتوم والموت داخل غرفة الإعدام.
أحداث القضية
تبدأ أحداث القضية... عندما قام المتهمان عزت حنفي وشقيقه حمدان بالاشتراك مع حوالى 30 متهما آخرين شكلوا تكوينا عصابيا داخل قرية النخيلة وقاموا بالاستيلاء على مساحة 280 فدانا وزرعوا عشرات الأفدنة بالمخدرات.
وكانت القرية بالنسبة لهم دويلة داخل الدولة فمنعوا دخول قوات الشرطة إلى الجزيرة وحتى يتسنى لهم مراقبة مداخل الجزيرة جيدا تحسبا لأي مفاجآت من قبل قوات الأمن قاموا ببناء 3 أبراج على المداخل الثلاثة للجزيرة فنصبوا من ناحية النيل مدافع مضادة للطائرات المروحية التي تستخدمها الشرطة لمنع محاصرتهم.
كان لعزت حنفي عيون في كل مكان سواء خارج الجزيرة... فقد قاموا بشراء عدد من الأفراد ودفعوا لهم بسخاء ليعرفوا تحركات قوات الشرطة أولا بأول، وإذا ما فكروا في مداهمتهم فهناك العديد من الخطط لمواجهة القوات وإفشال محاولة دخول أفراد قوات الأمن إلى حيث الجزيرة المفصولة عن باقي المحافظة والمناطق المجاورة بقوات من أفراد العصابة تم اختيارهم بعناية.
وداخل الجزيرة كانت أفواه أهالي القرية الفقراء تُكمم، ولا يستطيع أحد أن يرفض للمجرم عزت طلبا أو يعارضه فيما يريد، وكان أهالي القرية يتعرضون للإهانة والنهب وأحيانا إلى القتل إذا ما تعارضت طلبات أهالي القرية مع أفراد العصابة.
اقتحام الجزيرة
استخدمت في اقتحام الجزيرة 50 عربة مدرعة و60 زورقا نهريا وأكثر من 3 آلاف جندي وضابط من القوات الخاصة... فقد كانت الجزيرة عبارة عن حصن منيع لأفراد العصابة تمكنوا من تحصينه على مدى سنين طويلة حتى استطاعوا أن يجعلوه قلعتهم التي دانت لهم فقاموا باحتلالها ومع تصاعد وتيرة المواجهة سقط عدد كبير من أفراد العصابة على يد أفراد الشرطة، ثم تمكنوا من القبض على زعيمهم عزت حنفي وكان لقبه «شمشون»... وأخيه حمدان.
وبعد سقوط أفراد العصابة استسلمت النخيلة وأصبحت هادئة بعيدة عن هؤلاء الذين روعوها طيلة سنوات عدة... فالنخيلة بأسيوط عبارة عن شبه جزيرة متصلة بوادي النيل في الجزء الغربي منها تحتوي على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وفي الجزء الشرقي توجد معاقل الخارجين على القانون.
وكانت العصابات في هذه القرية المطلة على النيل تزرع المخدرات بكثافة عالية، وتقوم بالاتجار فيها على نطاق واسع داخل مصر، ليس هذا فحسب، بل إنها كانت تتاجر في السلاح الذي كان منتشرا بشكل كبير بين أفراد العصابة، وكانوا يستخدمونه في ترويع أهالي القرية الآمنين، وأيضا في الدفاع عن مصالحهم ضد أي اعتداء.
عصابات وحصون
قامت العصابة ببناء الحصون في أنحاء جزيرة النخيلة لحمايتها من أي هجوم عليها من قبل قوات الأمن، وتعدد شكل هذه الحصون فقد كانت هناك أبراج يصل ارتفاعها إلى «5» طوابق وهناك دشم حصينة بنيت بأسلوب ومواد لا تخترقها طلقات الرصاص.
وقاموا بحفر خنادق تحت الأرض ليتمكنوا من إطلاق الرصاص على أي قوة تهاجمهم... وكانت العصابة تمتلك كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة الحية بالإضافة للمسدسات والبنادق الآلية والعادية، وهناك مدافع من طراز جيرنوف التي يبلغ مداها أكثر من 7 كيلو مترات وتطلق أيضا قذائف من عيار نصف بوصة.
وقدرت بيانات الشرطة أعداد هذه المدافع في النخيلة بنحو «8» عدا التحصين، بالإضافة لأسطوانات الغاز التي نصبتها عائلة أولاد «علي حنفي» على الأسوار وعلى جذوع النخل، وذلك لتفجير تلك الأسطوانات في حالة مداهمة قوات الأمن لها.
أما النيل فقد امتلأ بالأسلاك والعوائق الصناعية حتى لا تتمكن الزوارق النهرية التي تستخدمها قوات الأمن في المداهمة من الالتفاف حولهم واحتجزوا مئات الرهائن الذين هددوا باستخدامهم كدروع بشرية في حالة تعرضهم لأي هجوم من قبل قوات الأمن.
كانت التحصينات التي استخدمتها عصابة أبناء علي حنفي... غريبة على المجتمع المصري وكأن العصابة أرادت أن تجعل منطقة النخيلة مثل «مقاطعة خاصة» داخل دولة كولومبيا.
لم تكن عصابة أولاد حنفي تقف في وجه قوات الأمن وحدها، ولكن كانت هناك عائلات أخرى موالية لها في القطاع الشرقي من الجزيرة، وذلك القطاع يضم مساحات هائلة من زراعات القنب الهندي والبانجو وغيرها من النباتات المخدرة، وكان يحرسها عدد من أفراد عصابة حنفي مدججين بالسلاح وكأنهم بذلك يريدون أن يقولوا لقوات الأمن إن ذلك لا يخيفنا ونحن نزرع النباتات المخدرة في وضح النهار، وخاصة أن كثيرا من هؤلاء الذين يقومون بحراسة النباتات المخدرة محكوم عليهم غيابيا إما بالإعدام أو بالسجن المؤبد.
وهكذا كان يختار عزت حنفي أتباعه من الخارجين على القانون حتى يرحب بهم أبناء القرية فلا يجرؤ أحد على التفوه بكلمة ضدهم مع الشرطة.
صنيعة الأمن
كان عزت حنفي دائما ما يردد أنه «صنيعة الأمن»... حتى أثناء المداهمة كان على اتصال بوسائل الإعلام... يؤكد لهم أن السلطات تريد أن تتخلص منه بالرغم من أنه قد ساعدهم في العام 2000 خلال انتخابات مجلس الشعب.
ولم يكتف بذلك بل أكد على أنه ساعد الأمن في حربهم ضد الإرهاب خلال التسعينات وتلك الفترة التي شهدت نشاطا كبيرا للجماعات الأصولية في محافظة أسيوط بشكل خاص.
أراد عزت حنفي أن يثير الرأي العام ضد الشرطة فقال: إنه حصل على الأسلحة والذخيرة من قوات الأمن، كما قام بقتل عدد كبير من الإرهابيين في فترة التسعينات بناء على طلب من السلطات الأمنية، وقد حصل منهم بالتبعية على الأسلحة التي أتم بها مهمته بنجاح.
أكد أيضا عزت حنفي... أن هناك عددا من رجال الأمن يقومون بحمايته هو وعصابته، وهم على علم بما يفعله بل إنه يعطيهم راتبا شهريا كبيرا ليؤدوا له مهمة الحماية، وإذا ما حدثت أي مداهمات يخبرونه بذلك، وكان يقول إنه يحتفظ بأسماء هؤلاء الرجال، فسلاحه الذي حصل عليه ونفوذه كانا من صنع الأجهزة الأمنية التي كان يعمل أيضا هو مرشدا لحسابها خلال حرب الإرهاب وبذلك غضت الطرف عنه وعن جرائمه التي يرتكبها في الجزيرة، وخاصة أن هناك أحكاما قضائية صادرة في حقه.
كان عزت حنفي أو «شمشون» يحاول أن يفعل أي شيء حتى يفلت من أيدي الشرطة، حاول عزت مع أفراد عصابته الإفلات من مداهمة رجال الشرطة لكنهم تمكنوا من الإيقاع بهم وقتل عدد كبير منهم.
وبالرغم من أن هناك من كان يؤمن المكان بشكل جيد لزعيم العصابة لكنه تم الإيقاع به وأمسكت الشرطة به هو وشقيقه حمدان وتنفست النخيلة كلها الصعداء فقد تخلصت من «شمشون» الذي أرعبهم لسنوات عدة.
تحقيقات واعترافات
أحيلت القضية على نيابة أمن الدولة العليا، وبدأت التحقيقات مع عزت وأخيه حمدان والأب علي حنفي، وتمت إحالة أوراق القضية إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ وقررت المحكمة في جلسة 28 يونيو العام 2005 إحالة أوراق المتهمين الأول عزت والثاني حمدان إلى مفتي الديار المصرية في القضية رقم «192» جنايات أمن دولة وأيد المفتي حكم الإعدام بحقهما.
سيارة الترحيلات
وكان طلب النقل الذي تقدم به حمدان قد جاء بعد أيام من ترحيل عزت الذي أضرب عن الطعام داخل عنبر الإعدام، وقد أثار بعض المشاكل مع مباحث السجن فكان قرار الترحيل لبرج العرب هو الحل الوحيد لإبعاد حمدان عن أخيه.
عندما علم حمدان بالنقل أخذ يجمع كل متعلقاته من داخل الزنزانة الضيقة وداخل سيارة الترحيلات حاول حمدان أن ينام لكنه لم يستطع فالمسافة كانت طويلة وأرضية السيارة غير مريحة، ولكن كان هم حمدان أن يتقابل مع أخيه عزت، والغريب أن الكوابيس التي كانت تهاجمه كل يوم ابتعدت هذه الليلة مع اشتياقه لرؤية أخيه. لم يشك حمدان لحظة أن هذه الرحلة من سجن الاستئناف بالقاهرة إلى برج العرب هي آخر رحلة في عمره إلى حيث مثواه الأخير، فقضاياه في أسيوط أعطته الأمل في استمرار الحياة ولو لعدة أشهر أخرى كان يطمع عزت وحمدان في عفو رئاسي بعد كل ما قدماه من التماسات.
وفي برج العرب اكتملت الترتيبات لإعدام الشقيقين، كان عزت في زنزانته لا يدري أحد كيف كانت حالته فابنه محمود لم يزره في المرة الأخيرة وزوجته لم تره منذ أسبوعين، كانت حالته النفسية سيئة... وصل حمدان قبل الفجر بدقائق إلى سجن استئناف برج العرب ووصل إلى شقيقه.
وانتهت القوة المرافقة من التوقيع في كشف المأموريات خلال دقائق... وتوجه حمدان وسط حراسة مشددة إلى زنزانة عزت... حيث تقابلا بالأحضان واستمر العناق لأكثر من 10 دقائق، فرجال المباحث وقيادات السجن لم يمانعوا في طول المدة فهم يعلمون أن هذه هي اللحظات الأخيرة في حياة كل منهما.
بعد عناق الأخوين أمر مسؤول السجن عزت بالدخول إلى زنزانته، وأن رجال السجن سيصطحبون شقيقه إلى زنزانته التي تبعد خطوات من زنزانة عزت، وأغلق الباب على عزت حنفي وانصرف الجميع من أمامه.
ثم عادوا إليه مرة أخرى بعد أكثر من ساعة، وكانت عقارب الساعة تقترب من الخامسة والنصف صباحا، ودخل إليه أحد الضباط وأخبره بأن شقيقه حمدان يحتاج إليه، وأنه سيتم تغيير الزنزانة، خرج عزت بكل هدوء ولم يكن يتوقع أن لحظة الموت قد حانت وأنه بعد دقائق قليلة ربما أقل سيكون عزت على طبلية المشنقة ليلقى مصيره ويقابل ربه.
تنفيذ الاعدام
تحرك عزت معهم إلى حجرة تنفيذ الحكم بالإعدام دون أن يدري، لكنه كان مندهشا فالزحام على بابها كان شديدا وكان من بين هؤلاء رجل يمسك في يده مصحفا ومسبحة ويرتدي الجلباب - إنه الواعظ الديني - ووقف عزت وحينها أدرك أنه مقضي عليه ووقف رغما عنه وأخذ الشيخ في تلاوة آيات القرآن ثم لقنه الشهادة.
وهنا انهار عزت حنفي وكاد أن يسقط على الأرض، لكن رجال السجن أمسكوه بقوة واقتادوه إلى المشنقة، وكانت آخر كلمات رددها عزت إمبراطور النخيلة «حسبي الله ونعم الوكيل» ثم أطبقت المشنقة على رقبته ومات.
ثم انصرف السجان إلى زنزانة حمدان وبرفقته قوة من رجال السجن لكن حمدان كان في حالة مختلفة عن التي كان عليها عزت، فقد توترت أعصابه فجأة لدرجة وصلت إلى حد الانهيار ولم يستطع الوقوف على قدميه لكن بصعوبة استطاع الوصول إلى غرفة الإعدام.
فقد كان يعرف حمدان أنها اللحظات الأخيرة في حياته عكس عزت الذي كان هادئا، وعندما اقترب حمدان من غرفة الإعدام أخذ يصرخ قائلا:«أنا مظلوم... أنا مظلوم»... وكان يرددها كثيرا، ولم يستمع إلى ما كان يتلى عليه من حكم أو حتى آيات القرآن وظل يردد ذلك حتى أدخلوه إلى غرفة الإعدام وعلى طبلية الإعدام ألبسوه الطاقية السوداء على رأسه وأحكم «عشماوي» على رقبته حبل المشنقة لكن ظل حمدان يصرخ، ولم يصمت وبعد ثوان انفتح باب الطبلية ليسقط فيها حمدان ويختفي صوته إلى الأبد.