الحصاد المر
عبدالحليم حافظ... معزوفة من اليتم والفشل والنجاح والمرض / 5
1 يناير 1970
05:58 م
| القاهرة - من نهى الملواني |
قبل عقود قليلة، كان الفن بحرا بلا شطآن، أو سفينة بلا ربان... وكان فطاحل النجوم، الذين ملأوا الدنيا فنا وإبداعا، يموتون، كما خرجوا إلى الحياة... أول مرة... فكم كان مأسويا ومفجعا ومؤلما... المشهد الأخير في حياة عدد محدد من الفنانين المصريين والعرب، الذين أثروا الوجدان العربي، وأبدعوا على خشبة المسرح، وتألقوا في السينما المصرية... حيث فارقوا معدمين فقراء، لا يملك ذووهم تكاليف تشييع جثامينهم إلى المثوى الأخير.
فمن يصدق أن كوميديانا مبدع... مثل نجيب الريحاني أو إسماعيل ياسين أو عبدالسلام النابلسي أو حسن فايق أو زينات صدقي... يفارق، وقد أدارت الدنيا ظهرها لهم تماما، وخاصمتهم، وأعلنت عليهم الحرب، وشحذ الفقر والمرض أسلحته، للقضاء على البقية الباقية منهم؟
تلك هي الحقيقة المرة... التي سنقرأها في سطور تلك الحلقات، التي تعرض جوانب غير معروفة في حياة 16 فنانا ومبدعا، عاشوا للفن ومن أجل الفن، وأخلصوا له، ولكنهم لم يحصدوا في نهاية المطاف سوى... الحصاد المر.
ربما يتحملون بعضا من المسؤولية فيما آلت إليه مصائرهم، فتوهموا أن الدنيا عندما تقبل... لا تدبر، وعندما تضحك لا تبكي، أخطأوا لأنهم لم يأمنوا غدر الأيام... وربما هذا ما دفع الأجيال اللاحقة لهم من الفنانين إلى أن يعيدوا حساباتهم، فيبالغون في أجورهم، ويتعاملون مع الفن بمنطق تجاري بحت، وليس كما كان يتعامل معه إسماعيل ياسين وعلي الكسار والنابلسي وغيرهم، وهو ما دفعهم أيضا «الأجيال الجديدة» إلى تأمين أنفسهم بمشروعات تجارية، منفصلة عن الفن... ذلك الغدّار غير مأمون الجانب.
أوراق مجهولة وأسرار ننشرها لأول مرة... نعرضها حصريا على صفحات «الراي» في تلك الحلقات... التي تبدو أحداثها ميلودرامية سوداء، ولكنها من طرف خفي... تبرز لنا جوانب مضيئة في حياة أبطالها... الذين قضوا حياتهم من أجل إمتاع الناس، وإحساسهم بالبهجة والسعادة، جيلا بعد جيل.
إنها الحياة... لا تترك للإنسان مفرا، ومن صعود إلى صعود... حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها، فتسلبه الدنيا بلا قسوة أو رحمة كل شيء... فما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
وفي النهاية... لا نجد إلا أن نستنزل من الله الرحمة على هؤلاء الفنانين الحقيقيين المبدعين... الذين أناروا سماء الفن العربي، بمواهبهم الفذة والمتوهجة... رحم الله الريحاني وإسماعيل ياسين وجورج أبيض وعلي الكسار... وغيرهم... بقدر ما أمتعونا... ولايزالون... وبقدر ما عانوا وقاسوا وتألموا في أيامهم الأخيرة.
في منطقة العزيزية بأم القرى «مكة المكرمة» ... كانت أسرة شبانة تعيش في سلام، تعمل في تجارة الإبل، وأحد أفرادها يعمل مطوفا لحجاج بيت الله.
وفي نهاية القرن التاسع عشر... نزح أحد أفراد هذه الأسرة واسمه محمد شبانة ... إلى مصر... ضمن قوافل الحجاج المصريين العائدين من الحج... على ظهور الجمال... وكان قد تعرف على إحدى الأسر المصرية، التي سافرت لأداء فريضة الحج، وانبهر بجمال فتاة مصرية، كانت مع أبويها في الأراضي المقدسة، وأراد أن يرتبط بها، لكن الأم رفضت أن تترك ابنتها بعيدا عنها، ولم يشأ الأب أن يُغضب الشاب المكي... فقال له: يا ابني لن نجد عريسا لابنتنا أفضل منك... وإن شاء الله عندما تأتي إلينا في مصر سوف نزوجك إياها.
كان أسلوبا مهذبا من الأب، ليبعد الشاب عن ابنته... لكن الفتى كان مغرما... فجمع ملابسه وودع أهله... وقال لهم: إني ذاهب إلى مصر فكلها بلاد الله.
وصل مع الأسرة المصرية إلى بلبيس في محافظة الشرقية «85 كيلو مترا شرق القاهرة»... وانتقل إلى منيا القمح ثم استقر في قرية الحلوات، وتزوج من الفتاة المصرية وأنجب 3 أولاد و4 بنات، وكان من بين الأولاد ابنه «إسماعيل»، الذي تزوج وأنجب ابنه «علي» الذي التحق بكتاب القرية وصار اسمه الشيخ «علي شبانة».
محنة اليتم
في شهر مارس 1915... تزوج الشيخ علي فتاة ريفية بسيطة من قرية الحلوات اسمها بهانة أحمد عماشة وأنجب منها 3 أولاد وفتاة هم بالترتيب إسماعيل، محمد، وعلية وكان آخر العنقود طفلا نحيلا هو عبد الحليم، ولدته أمه بهانة يوم الاثنين 21 يونيو... وبعد أسبوع واحد من ولادته ماتت أمه قبل أن ترضعه، فتشاءمت منه نساء الأسرة، وقالوا إن ولادته تعتبر فألا سيئا، حتى إن إحدى النسوة قالت: اتركوه بلا رضاعة ليموت أو أرضعوه من ثدي أمه المتوفاة، ليشرب لبنا مسمما فيموت ويرتاح من العذاب في الدنيا ويريح من حوله.
لكن أخته علية وكان عمرها أقل من 5 أعوام رفضت، وارتمت فوقه وهي تبكي « أخويا... حرام عليكم... سيبوه يعيش».
كانت توجد امرأة من نساء القرية اسمها أمينة الشيخ سيد حملت الطفل الصغير بين ذراعيها وأرضعته من صدرها وأخذته معها إلى بيتها وكانت ترضعه من ضرع ماعز ولدت حديثا في منزلها.
قبل أن يكمل عبد الحليم عامه الخامس مات أبوه الشيخ «علي إسماعيل شبانة» يوم 15 مايو 1934م، وصار يتيم الأبوين هو وأشقاؤه، وتولى تربيتهم خالهم « متولي أحمد عماشة» وكان موظفا بسيطا ببنك التسليف الزراعي راتبه 4 جنيهات شهريا.
ظروف سيئة
كانت الظروف قاسية وصعبة فاضطر خالهم إلى بيع منزل والدهم بقرية الحلوات بمبلغ 14 جنيها فقط لرجل واصطحبهم ليعيشوا معه في منزله المتواضع بقرية اسمها محلة الزقازيق بالقرب من مكان عمله.
أرسل عماشة... عبد الحليم إلى كُتاب الشيخ أحمد الفقي ... كان شيخا قاسيا لا يعرف الرحمة... يضرب الأولاد بالعصا الغليظة، ويقيد أرجلهم بـ «الفلقة»... كان عبد الحليم ضعيفا، نحيل الجسم... عظامه بارزة في صدره وذراعه في سمك رجل الماعز التي يلعب معها في بيت خاله... لم يتحمل الضرب وهرب من الكتاب، وكان يبكي بحرقة كلما أخذه خاله إليه.
أعوام في الملجأ
كبر الأولاد وضاق الحال بالخال خصوصا بعد أن مرضت زوجته وكان ينفق نصف راتبه على علاجها... ولم يكن أمام خاله الفقير إلا أن يرسل عبد الحليم إلى ملجأ للأيتام في مدينة الزقازيق... أمضى فيه 8 أعوام و7 أشهر كاملة، وهناك تعلم القراءة والكتابة وحفظ الأناشيد... كما تعلم العزف على آلات النفخ النحاسية خاصة «آلة الأبوا».
بلغ عبد الحليم الرابعة عشرة من عمره... عندما غادر الملجأ، واصطحبه شقيقه الأكبر إسماعيل... ليعيش معه في القاهرة، حيث كان يعمل موظفا بوزارة الصحة المصرية وبجانب ذلك عشق الموسيقى والغناء، فالتحق إسماعيل بمعهد الموسيقى العربية الذي افتتحه الملك فؤاد ملك مصر... وتتلمذ إسماعيل على يد عميد المعهد المايسترو أحمد صبري وتبناه لنبوغه وتفوقه وبعد تخرجه عينه بالمعهد، وتدرج في الوظائف حتى صار وكيلا لمعهد الموسيقى فأخذ شقيقه عبد الحليم وألحقه بالمعهد حتى حصل على دبلوم معهد الموسيقى عام 1946 م. ثم ألحقه بعد ذلك بالمعهد العالي للموسيقى... وفي هذا المعهد تعرف على زميل الدراسة اسمه «كمال الطويل» والده زكي باشا الطويل من أعيان الاسكندرية... وعمه عبد العزيز باشا الطويل كان رئيسا لمجلس النواب «البرلمان».
بعد التخرج في المعهد... عين عبد الحليم مدرسا للموسيقى والأناشيد في مدرسة طنطا الابتدائية للبنات بمحافظة الغربية «وسط الدلتا» ثم سافر إلى القاهرة ليعيش مع أخيه إسماعيل في شقة متواضعة بالبدروم بحىّ المنيل.
قدمه صديقه كمال الطويل الموظف بإدارة الموسيقى والغناء بالإذاعة إلى أستاذه حافظ عبد الوهاب رئيس إدارة الموسيقى والغناء بالإذاعة فضمه إلى فرقة موسيقى الإذاعة عازفا على آلة «الأبوا» نظير راتب 50 جنيها شهريا، في حين كان يتقاضى 12 جنيها فقط من عمله... مدرسا للموسيقى... كذلك كان يعزف عبد الحليم في الأفراح ويسهر كثيرا ويتأخر في الذهاب صباحا إلى المدرسة فتم رفع مذكرة بكثرة غيابه إلى وزير المعارف «آنذاك» فأصدر قرارا بفصله من العمل.
لا يصلح
وكانت فرصة ليتفرغ حليم للعزف بفرقة موسيقى الإذاعة... وذات مرة تأخرت البروفات فجلس بينه وبين نفسه يدندن ويغني أغنيات محمد عبد الوهاب الشهيرة... وتصادف مرور حافظ عبد الوهاب في الممر... فسمع صوتا جميلا، وما إن رأى حليم... حافظ حتى توقف وهب واقفا فطلب منه أن يجلس، ويستمر في الغناء، وأعجب جدا بصوته وأقنعه بالتقدم لامتحان الأصوات الجديدة بالإذاعة المصرية العام 1951ولكن المستشار الفني للإذاعة مصطفى رضا... وهو سكرتير لجنة اختبارات الأصوات الجديدة قال إن صوته لا يصلح.
بعد ذلك... التقى عبد الحليم بصديق الطفولة والصبا الشاعر صلاح عبد الصبور... وهو بلدياته من قرية الحلوات محافظة الشرقية وروى له ما حدث من لجنة الإذاعة.
إصرار على النجاح
قال له عبد الصبور: « لا تيأس واعتمد على الله... سوف أهديك أغنية من ديوان الشعر الذي كتبته اخيرا» ولحن له الأغنية كمال الطويل.
وخاض الامتحان... وحضرت أم كلثوم من البداية... وأنصتت له باهتمام وقالت: «هذا الولد صوته جميل ومميز، يؤدي الغناء الشرقي والغربي... بنفس درجة الإجادة ويستحق أن ينجح لأن عنده إحساسا كبيرا وصوته ناعم».
وأخيرا تم اعتماد المطرب الشاب عبد الحليم شبانة مطربا بالإذاعة المصرية في 21 فبراير 1951 م، وبدأ تسجيل أول أغنية... لكن وقعت أول مشكلة... فاسمه عبد الحليم شبانة وله شقيق مطرب اسمه إسماعيل شبانة، وشقيقه الأوسط هو الآخر مطرب واسمه محمد شبانة، ومن هنا ستتهم الإذاعة بأنها إذاعة عائلة شبانة وكان لابد أن يختار اسما فنيا يختلف عن اسمي شقيقيه.
إنقاذا للموقف تدخل حافظ عبد الوهاب وقال: «عبد الحليم حافظ» وذلك اعتبارا من 3 مارس 1951، وبدأ عبد الحليم حافظ يغني في الإذاعة باسمه الجديد وقدم أغنية «صافيني مرة وجافيني مرة» من ألحان محمد الموجي بعد أن قدم قبلها الأغنية التي كانت سببا في شهرته وهي «على قد الشوق» من ألحان كمال الطويل.
اقتحم عبد الحليم حافظ مجال السينما... وفي البداية كان يشترك بالتمثيل والغناء فقط بالصوت من دون ظهوره على الشاشة في أفلام «بعد الوداع»، «علاء الدين والمصباح السحري»، و«علي بابا والأربعين حرامي».
لكن في عام 1953م غنى بصوته في فيلم « بائعة الخبز» وغنى فيه على لسان بطل الفيلم شكري سرحان أغنية «أنا أهواك» وغنى للإذاعة ملحمة أدهم الشرقاوي... التي غناها من بعده المطرب الشعبي محمد رشدي.
أما أول ظهور لعبد الحليم حافظ على الشاشة... فكان في فيلم « لحن الوفاء» أمام شادية، وفيلم « أيامنا الحلو» أمام فاتن حمامة.
وفي أثناء وجوده بمعهد الموسيقى... جاء متعهد حفلات اسمه صديق أحمد وعرض عليه أن يشركه في إحدى الحفلات على مسرح حديقة الأندلس الصيفي... على النيل وهو المكان الذي تحيي فيه أم كلثوم حفلاتها الصيفية واختاره صديق أحمد... ليغني عبد الحليم بين الفقرات الغنائية الموجودة يوم 14 يوليو 1951.
موقف حرج
وفي صيف 1952 م ومع قيام الثورة المصرية... اتفق المتعهد صديق أحمد... مع حليم لإحياء حفل غنائي بمدينة الاسكندرية... يقدم فيه الأغنيات الشهيرة للمطرب والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب نظير مئة جنيه وأعطاه عربونا... نصف المبلغ.
ولم يستمع عبد الحليم لاتفاقه مع المتعهد... وبدأ يغني أغنية من تلحين محمد الموجي هي «صافيني مرة» ولم تعجب الجمهور فهتف البعض: «انزل... انزل... مش عايزينك» بينما ألقى البعض عليه الطماطم وأكياس الفول السوداني واللب الذي في أيديهم... وتم إسدال الستار.
وأصيب عبد الحليم بانهيار وأخذوه لإحدى الغرف وهو يبكي من هول الصدمة... وذهبت إليه الفنانة تحية كاريوكا، وكانت ضمن الجالسين في الصف الأول للاستماع إلى صوت الشاب الذي سمعت عنه وكانت هي في تلك الفترة نجمة كبيرة ومشهورة... فأخذته إلى أحضانها وقالت له: «يا حبيبي... لا تحزن» وطيبت خاطره، وهي تقول:
« عليك بالصبر... الفنان مثلما يتمنى النجاح... عليه أن يتوقع الفشل والإنسان القوي هو الذي يواجه الشدائد لا ينكسر وعليك أن تبدأ من جديد».
عبدالوهاب توقع له النجاح
استمع الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب... إلى صوته من خلال الراديو ولأنه خبير ومحنك توقع لهذا الشاب نبوغا كبيرا فاتصل به عن طريق محمد الموجي... صديقهما المشترك.
وجاء عبد الحليم إلى منزل محمد عبد الوهاب ووقع معه عقدا لتسجيل 10 اسطوانات، واشترط عليه أن تكون الألحان المسجلة كلها لمحمد عبد الوهاب ووقع معه عقد احتكار للتمثيل في السينما وتكون البداية فيلمين نظير 400 جنيه للفيلم الواحد.
عرض مغر
بعد توقيع عقد الاحتكار مع محمد عبد الوهاب... اتصل المخرج إبراهيم عمارة بعبد الحليم... يعرض عليه فرصة عمره وحلم حياته وهو بطولة فيلم «لحن الوفاء» أمام شادية وحسين رياض نظير ألف جنيه بخلاف أجر الأغاني... طار من الفرحة إلا أنه اصطدم بعقد الاحتكار الموقع مع عبد الوهاب الذي يمنعه من الاشتراك في أي عمل فيلمي.
اجتمع الأصدقاء الثلاثة: عبد الحليم وكمال الطويل ومحمد الموجى وانضم إليهم صديقهم الرابع المحامي مجدي العمروسي... الذي تعرف عليه حليم في الاسكندرية وأقنعه بأن ينتقل إلى القاهرة ويكون معه في كل خطواته كمحام وكصديق واتفقوا على ألا يضيع عبد الحليم الفرصة ويقبل العرض، وخاصة أن شادية لم تعترض... وهي النجمة الكبيرة أن تقف أمام شاب نحيل مغمور غير معروف.
وتطوعت تحية كاريوكا ومنتجة الفيلم ماري كويني والمحامي مجدي العمروسي وزوزو نبيل إحدى بطلات الفيلم بالذهاب لعبد الوهاب ليسمح لعبد الحليم بالتمثيل، فاستدعى مستشاريه مرسي جميل عزيز وحسين السيد ورؤوف ذهني وسألهم، فقالوا له: اتركه يمثل فيلم «لحن الوفاء» أمام شادية وفيلم «أيامنا الحلوة» أمام فاتن حمامة، فإذا نجح الفيلمان فقد كسبت ممثلا نجما من دون دعاية ولن يأخذ أكثر مما اتفقت معه عليه في العقد وهو 400 جنيه للفيلم، وإذا فشل الفيلمان وسقط عبد الحليم فعندك مبرر لفسخ عقدك معه دون أن تدفع له مليما واحدا كتعويض.
اقتنع محمد عبد الوهاب وأعطاهم ورقة مكتوبة بموافقته ووقف عبد الحليم لأول مرة أمام الكاميرا في 12 ديسمبر 1954 ليصور فيلم « لحن الوفاء « وكان أول مشهد تم تصويره أغنية «على قد الشوق».
وانتهى عبد الحليم من تصوير أول أفلامه « لحن الوفاء» وعرض لأول مرة بسينما فريال بالاسكندرية في 1 مارس 1955 بالاسكندرية أيضا.
خطوة جريئة
في تلك الفترة توطدت العلاقة كثيرا بين حليم وبين مدير التصوير وحيد فريد واتفق معه على تأسيس شركة للإنتاج السينمائي معا. وأقنعه أن ينتقل ليسكن معه في العمارة نفسها وهي عمارة «السعوديين» بالعجوزة على فرع النيل بجوار فندق شهرزاد وبجوار السيرك القومي ومسرح أم كلثوم وهي التي يسكن فيها حشد هائل من الفنانين.
انتقل عبد الحليم إلى شقة استأجرها في عمارة «الايموبيليا» ويقال إن أحد أمراء السعودية هو الذي استأجرها له واشترى لها فرشا فاخرا من محلات فينوس الشهيرة في القاهرة.
عاش عبد الحليم في هذه الشقة ومعه شحاتة ابن خالته وزوجته وفردوس ابنة خالة عبد الحليم وشحاتة، وكان يقيم في العمارة نفسها فريد شوقي وهدى سلطان وصباح ومديحة يسري ومحمد فوزي ووحيد فريد ووغيرهم.
أثمر الاتفاق بين حليم والحاج وحيد فيلما مصريا بالألوان «سينما سكوب» وشاركته البطولة شادية وغنى فيه أغنيته الشهيرة «حبيب حياتي»، ومن خلاله تعرف عبد الحليم على نجوم الصحافة في تلك الفترة «مصطفى أمين وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس ومحمد التابعي وكامل الشناوي ومأمون الشناوي وجليل البنداري» وهو الذي أطلق عليه لقب «العندليب الأسمر» وظل ملاصقا له حتى وفاته.
تعددت أفلام عبد الحليم حافظ حتى بلغت 16 فيلما وكان آخر أفلامه «أبي فوق الشجرة» وذلك قبل مرضه ووفاته.
محنة المرض
في صيف 1940... كان يمارس هوايته في العوم في ترعة الحمامة التي تخترق القرية وفجأة توقف ولم يستطع العوم، وكاد يغرق... لولا أن أنقذه صديقه عبد الحليم عبد العال، ليبدأ من هذا اليوم رحلة عذاب مع مرض البلهارسيا ونقل إلى مستشفى الانكلستوما في الزقازيق ليأخذ جرعات حقن من دواء الطرطير المقيء.
ويطارده النحس ويسقط يوم 15 مايو 1945 من فوق سور المنزل ويسقط فاقدا الوعي، وظن أهل القرية أنه مات، وبعد إسعافه... تبين أنه أصيب بكسر في عموده الفقري وظل حبيس قميص من الجبس لمدة 6 أشهر.
لم يتركه المرض وحده. بل طال محبوبته، ففي مرحلة الشباب تعرف على فتاة اسمها ديدي وأحبها بجنون، كان اللقاء الأول عام 1956 على شاطئ ميامي بالاسكندرية، ولم يهنأ عبد الحليم بمحبوبته طويلا، فقد أصيبت بفيروس في المخ وحزن عليها حزنا شديدا.
استمر معه المرض كل سنوات عمره، يرقد مريضا ويسافر للعلاج على نفقة الدولة أو على نفقة أحد الأمراء... ثم يستأنف نشاطه لدرجة أن بعض الحاقدين عليه كانوا يتهمونه بادعاء المرض ليكسب عطف الجمهور والمواطنين.
وذات مرة أصيب بنزيف داخلي وهو في المغرب، فنقل إلى مستشفى ابن سينا في الرباط... ثم أمر الملك الحسن بنقله إلى باريس على نفقته للعلاج هناك في طائرته الخاصة... ومنها إلى لندن بانكلترا ليعالج تحت إشراف الدكتور « تانر» البروفيسور المتخصص في أمراض الكبد، وخاصة البلهارسيا.
وكان يرافقه طبيبه الخاص الدكتور زكي سويدان وطار معه مجدي العمروسي وشحاتة ابن خالته ولحق بهما محمد شبانة شقيق عبد الحليم... وبليغ حمدي.
ظلت حالته تتدهور وتسوء حتى مات في لندن يوم 30 مارس 1977وتم دفنه في مظاهرة شارك فيها خمسة ملايين مصري وغير مصري... وهم يبكونه ويودعونه إلى مثواه الأخير بعد رحلة مثيرة من... العذاب والألم والشهرة والنجاح والثراء... والفقر وضيق ذات اليد والمرض والموت في النهاية.