عندما تشتد الأزمات وتزيد المحن، حيث تعجز السياسة عن ايجاد الحلول الناجعة، يبقى الدين ملاذاً آمناً وملجأ مطمئناً للبحث عما يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت.
وذهاباً إلى لبنان حيث تعصف الأزمات بين فئات الشعب اللبناني، وتقف السياسة عاجزة عن توحيد المواقف، يبرز منهج وسطي «بائد» أو بمعنى أوضح منقرض، هو منهج الإمام الأوزاعي الذي عاش بين العام 88 هجري و157 هجري، والذي يصفه الخليفة المنصور بأن «قوته من قوة عقيدته التي يمثلها ويعيش لها، فهو يحيا في الحق، لا يستهيب كبيراً أو أميراً، ولايستحي من قريب، ولا تأخذه في الله لومة لائم او سلطة حاكم».
وفي اطار العمل على نشر المذهب الوسطي للإمام الأوزاعي احد علماء الأمة الأفذاذ، تسلمت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الكويت أخيراً كميات من كتيب يروي سيرة الإمام الأوزاعي بعنوان «الأوزاعي امام أهل زمانه وإمام لبنان على الزمان»، للمؤلف الدكتور فاروق سعد من رئيس لجنة دار الفتوى اللبنانية في الكويت الذي قام بطباعة الكتيب في طبعته الرابعة على نفقته، سعياً لطرح هذا المذهب الوسطي «الذي نحن في حاجة لنشره بين الأديان لتحقيق التقارب والمساعدة على تحقيق السلام».
وقال عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدكتور محمد الطبطبائي في مقدمة الكتاب ان «الإمام عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي من علماء الأمة الأفذاذ»، مضيفاً انه «عاش حياة مديدة سخرها في طلب العلم ونشره، ولم يعقمه ميثمه بفقد أبيه في سن الخامسة من ان يسود أهل زمانه بالعلم والحكمة».
وذكر الطبطبائي ان «الإمام الأوزاعي نشأ في بيروت - حاضرة العلم - ثم اصبح إمام أهل زمانه، لاسيما في الحديث، حيث كان إمام أهل الشام في الحديث في الوقت الذي كان فيه الإمام مالك بن انس إمام أهل الحجاز، وسفيان الثوري إمام أهل الكوفة، وحماد بن زيد إمام أهل البصرة».
وأشار إلى ان الإمام الأوزاعي كان قدوة في إنصافه وعدله مع المسلمين وغير المسلمين، وكان يحبه لعدله المسلمون وغيرهم»، موضحاً ان «للأوزاعي مذهباً يعد من المذاهب البائدة، بسبب عدم تناقلها بين تلاميذه، وكانت له اجتهادات فقهية جديرة بالنظر فيها».
وأضاف الطبطبائي: «كان الإمام الأوزاعي واعظ الفقهاء وفقيه الوعاظ، فكان اذا جلس للوعظ خشع وبكى من حضر مجلسه، وكان زاهداً في الدنيا، لم يقبل عطايا الأفراد، ولا غيرهم تعففاً، وكان باذلاً لما له في الخير، فتوفي وليس له مال إلا وقد انفقه في الخير».
وأكد الطبطبائي أننا «اليوم في أمس الحاجة إلى احياء مسيرة أمثال هؤلاء العلماء الزهاد الحكماء في نفوس الأجيال، خصوصاً الإمام الأوزاعي، وذلك من خلال نشر سيرته وآرائه...
وشكر الطبطبائي المؤلف الدكتور فاروق سعد على اعداده الكتاب، وخص بالشكر ايضا رئيس لجنة دار الفتوى اللبنانية في الكويت حسان حوحو على تبرعه بطبع الكتاب على نفقته وتقديم مجموعة منه الى كلية الشريعة والدراسات الاسلامية في جامعة الكويت.
أما رئيس لجنة دار الفتوى اللبنانية في الكويت حسان حوحو الذي تولى طباعة الكتاب في الكويت ونشره.
فقال: «ما أحوجنا اليوم، وفي بلدنا لبنان ان نتناول سيرة الامام الاوزاعي - الوسطي - الذي بلغت رفعة مكانته ومحبته في نفوس اهل الشام على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وطبقاتهم ومهنهم، والذي اجمع من كتبوا سيرته او اشاروا اليها، انه عندما خرجت جنازته شيعه المسلمون والمسيحيون واليهود.
واكد حوحو في تصريح
لـ «الراي» ان «اللبنانيين في امس الحاجة اليوم الى الاستلهام في مذهب الامام الاوزاعي الوسطي في عملهم، من اجل الوصول الي تعايش سلمي حقيقي بين فئات الشعب اللبناني بمختلف اديانهم وطوائفهم».
واشار الى ان «الوسطية مذهب يحتاج اليه عالمنا العربي كله في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة»، موضحا ان «العمل على نشر هذا المذهب يحتاج الى التعاون وتضافر الجهود بين الجميع، لقطع الطريق امام من ينتحلون صفة الاسلام والمسلمين، والمتطرفين الذين يمارسون الارهاب تحت ستار الدين...
واشاد حوحو في هذا الاطار بالمركز العالمي للوسطية في الكويت، والذي يعمل على نشر الفكر الوسطي الذي يمثل الوجه الحقيقي للدين الاسلامي، مشددا على ان هذا ما نحتاجه فعلا، لاظهار الصورة الصحيحة للاسلام الى شعوب العالم الغربي.
ودعا حوحو الى العمل على نشر مذهب الامام الاوزاعي الذي يشجع على الحوار والمساواة والعدالة في المجتمع ويدعو الى عدم التفريق بين ابناء الوطن الواحد. ويأتي كتاب «الاوزاعي - امام اهل زمانه وامام لبنان على الزمان» في 40 صفحة من الحجم الصغير.
وذكر المؤلف الدكتور فاروق سعد ان «مذهب الامام الاوزاعي قام على منهجية تنطلق في استنباط الاحكام مباشرة من القرآن الكريم، فان كان ما فيه مجملا اوغير متوفر اتجه الى السنة».
وقال ان «فتاويه تراوحت بين 40 الفاً و800 الف مسألة، وانتشر مذهبه في بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن) والأندلس نحو ثلاثة قرون، وكان خامس المذاهب السنية من حيث الشيوع والأثر... واوضح ان «الاسم الكامل للامام الأوزاعي هو عبدالرحمن بن عمرو بن يحمد، وعرف بلقبه الاوزاعي نسبة إلى اوزاع التي قيل انها بطن من اليمن، او فرق من الناس توزعت وتفرقت، أو قرية من ضواحي دمشق»، مضيفاً انه «كان - كما وصفه الاصفهاني - العلم المنشور، والحكم المشهور، والامام المبجل والمقدام المفضل...
وذكر ان «رفعة مكانة الامام الأوزاعي ومحبته في نفوس أهل الشام على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وطبقاتهم ومهنهم، بلغت درجة ان احد الولاة نصحه احد بطانته بعدم معارضته قائلا له: لو اشار الى اهل الشام لضربت عنقك».
واشار سعد الى ان «الأوزاعي يعتبر رائدا من رواد علم مصطلح الحديث، وعلما من اعلامه الأفذاذ، وكان حجة ببلوغه في الحفظ والاتقان مبلغا يصح ان يكون حجة عند العام والخاص»، مضيفا ان «الأوزاعي كان فقيها ذكيا عارفا، واسع الاطلاع والخبرة، شديد الدقة، كلي الاسلوب وواضح التعبير».
وافاد ان «القضاة في ايام الامام الأوزاعي وبعدها، كانوا يسيرون على تعاليم مذهبه ومنها توكيده على عدالة الاحكام»، مشيرا الى ان «الأوزاعي ذهب الى اعتبار الحكم المبني على الجور أو الخطأ غير نافذ شرعا ولايزيل الشيء عن صفته الحقيقية، فالاحكام بنظره لاتحل حراما ولا تحرم حلالا، وهذا اصلح عدالة وانسانية، وشدد الأوزاعي ايضا على عدم جواز ان يحكم القاضي بما يعلمه بل بما سمعه في مجلس القضاء...
واضاف ان فتاوى الأوزاعي اتسمت بالمساواة بين الناس والرحمة، وذهب الى استعاضها بالشبهات ما يتفق مع قاعدة الشك لصالح المتهم».
وقال الدكتور فاروق سعد ان «فتاوى وآراء الامام الأوزاعي لا تكاد تختلف كثيرا في نطاق ما يسمى اليوم بقانون الموجبات والعقود، وقانون الملكية العقارية وقانون التجارة، اذا اكد على ضرورة توفر النية الحرة والرضا الصحيح كأساس لانعقاد العقود...
أما لماذا باد مذهب الامام الأوزاعي، فيوضح سعد ان «ذلك يرجع لاسباب عدة اهمها انه لم يات بعد وفاته من اصحابه وتلاميذه من يثابر في جمع تراثه وتدوينه وشرحه والتأليف فيه ونشره ومتابعة نهجه، كما انه لم يتيسر لاتباع مذهب الأوزاعي السلطان والجاه ولم يتسع له الخلفاء والولاة، يضاف الى ذلك ان بيروت لم تكن محجة للدين على غرار المدنية المنورة او بغداد...
ويشير سعد الى انه من الرغم ان ما وصلنا ليس الا جزءا يسيرا من تراث الامام الأوزاعي فاننا نجده شاملا محيطا بمعظم الموضوعات التي تناولتها الاحكام الحديثة، في مختلف الأبواب... ويختم بالقول: «يبقى الامام الأوزاعي حبيباً للبنانيين، وتبقى ذكراه العطرة ماثلة في نفوسهم وافئدتهم لمواقفه الوطنية الجريئة وتعاليمه الانسانية الفذة التي اقترنت بشخصيته التقية وبعلمه الغزير، ولتعاليمه السمحة الداعية الى حرية العقيدة والمساواة والعدالة...».
غلاف الكتاب