بعد وصولها القائمة الطويلة لجائزة «البوكر»

رواية (في الهُنا) لطالب الرفاعي... الحكاية بين الجميل والمؤثر

1 يناير 1970 06:03 ص
وأنا أودع الساعات الأخيرة للسنة الفائتة، ندّت عني التفاتة نحو كتب كثيرة تنتظرني، ولأنني اتخذت قراري بالبدء مع أول يوم بالسنة الجديدة بكتاب جديد، فلقد تناولت رواية «في الهُنا» للروائي والقاص طالب الرفاعي، الصادرة عن دار «بلاتينيوم». ولقد أغراني فيها صغر حجمها، وعنوانها الغريب.

لا أدري منْ منا أمسك بالآخر، أنا أمسكت بالرواية أم هي منْ أمسك بأنفاسي. ومع نهاية الفصل الثاني دار ببالي إمكانية أن أكتب عنها. لكن، كيف أكتب عن رواية (في الهُنا) والعنوان وحده بعد أن أدركت أبعاده ومراميه تشكّل أمامي كرواية؟ في البداية لم أنتبه للضمة التي تتوج الهاء برغم وضوحها، لكن حين عدت لصورة الغلاف لفت نظري المكتب المختفي تحت الملفات والمجلات وربما بعض الكـتب. لا أدري؛ كل هذا فوق سطح مكتب يبدو صغيراً نوعا ما، فهل (في الهُنا) هناء في ظل هذا الازدحام! عُدت أتأمل العنوان ولمحت الضمة فوق الهاء وفكرت؛ تُرى ماذا يحتوي هذا الهُنا!

متوحدة، بدأت بقراءة الرواية مع لحظة ميلاد العام الجديد، ولم يشرق صباح ليل إبحاري إلا وقد أنهيتها، لكنني لم انتهِ منها. تركتني نهاية الرواية المفتوحة معلقة ومصدومة أنظر إلي،َّ وأنظر إلى ما يحيط بي من قصص أعرفها تماماً وكم عايشت مراراتها. كنت أريد معرفة مصير البطلة «كوثر» ونهاية قصتها أو ربما نهاية تمزق تركته الرواية داخل روحي. لكن، الروائي طالب الرفاعي لم يعنه ذلك فلقد استدرجني والقراء إلى حيث يريد تماما وكأنه يقول: لتقف هنا عزيزي القارئ، ولتنظر من أنتَ (في هُناك) في هذه اللحظة! وأعترف أني بكيت، ولا أدري أي حقيقة أبكي، أي حرية أنشد، أي مجتمع نساير، أي عادات وتقاليد نقدس!؟ حتى وأنا أكتب انطباعي عن الرواية ألتفت مرتعبة من سطوة وقسوة وظلم لتقاليد. كلنا هذه العادات والتقاليد سواء كنا أسيادها نحمل سوطها أو كنا ضحايا تحت سياطها. (في الهُنا) تمزّق ذلك الغلاف الهش الذي ظنناه قوي ومحكم؛ وتمزّقنا معه. كيف نستطيع أن نكون حياديين مع أطراف شتّى؟ الرواية تزيح بذكاء يصل حد الخبث الأغطية التي تتدثر بها قضية ارتباط المرأة بالرجل في المجتمعات الشرقية عامة، وفي المجتمع الكويتي خاصة. امرأة عزباء تتورط بعلاقة مع رجل متزوج، وتعيش العذابات في رحلة علاقتها به.

سبق أن أخبرتني زميلة بأن صورة غلاف الرواية تمثل المكتب الحقيقي الذي يباشر الروائي طالب الرفاعي فيه عمله في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. لكن، لم يكن (في الهُنا) مكتب طالب الرفاعي فقط، بل كان (هُنا) كبير يشمل عوالمنا أجمع! في (هُنا) كل منا تتكدس ملفات بالية مطلسمة ضد احلامنا ومع ذلك نحطم أحلامنا وأحباءنا من أجلها!

لم تكن قصة «كوثر ومشاري» تخصهما، بل كانت تخصني كقارئة وربما تخصّ أي فتاة أو امرأة في الكويت والعالم العربي وحتى العالم. شعرتُ وأنا أقرأ الرواية بأن كل هذا الألم والتمزق في داخلي ينساب مع أغنية «قومي أوقفي لي وارفعي البوشية» للمطرب محمود الكويتي. كان اختيار الروائي موفقاً تماما لهذه الأغنية التراثية الجميلة، بإيقاع السامري الهادئ، الذي راح يطلّ على أحداث صاخبة هزت أركان معتقدات راسخة منذ دهور. كمشرط جراح يطال أورامنا ثم يشرع في استئصالها، مع نغم السامري تتمايل الروح ليس طربا فحسب؛ بل ألماً يخف رويدا رويدا وبهدوء لتهدأ الروح وتنسجم مع جسدها بحركات السامري الرقيقة فما الروح والجسد سوى نحن مهما اختلفت المسميات؛ أنا القارئ وأنتَ وكوثر ومشاري وأفراد عائلتهما وجميع من يحيط بنا.

(في الهُنا) وبالرغم من صغر حجمها الماكر (162 صفحة) من القطع المتوسط، إلا أن القارئ ولحظة يبدأ بخوض عوالمها سرعان ما يدرك أنه يواجه عريّه، ولحظتها سيصعب عليه تغطيته بزيف العبارات المعلبة والموروثة لمجتمع يحلم ويتمنى في الظلام، لكنه جبان أمام النور والعلن أمام العيون المتلصصة التي تبحث عمما يثير غريزة الشماتة لديها ثم يجدون لها مبررات قبلية أو دينية. ومع اعترافي بجرأة الطرح في الرواية، كما هي عادة الروائي الرفاعي في أعماله الروائية والقصصية، وتمزقي بين أحداثها ومواقفها التي تمسنا جميعا بطريقة أو بأخرى، سواء ضد أو مع أو بين بين، فأنا أحيي الرفاعي على قدرته المتقنة الجذابة والفنية بالمزج المذهل بين سيرته الذاتية وعائلته وأحداث الرواية ومن خلفهم يتمازج الغناء السامري كأنه يضفر جديلة من شقّين عراقة الماضي وتطورات الحاضر في تماوج يخفف قساوة الأول وتمرد الثاني لتصل لنا رسالة؛ بأننا ربما نعتز بشيء من ماضينا لكننا لن ندفن معه حاضرنا الماثل أمامنا. ماضينا وحاضرنا، اختلافنا وتشابهنا، حياؤنا وجراءتنا؛ تماما كما السامري يجب أن تتماهى وتتناغم وتنسجم مع إيقاعه، هو غناء يمس الروح، يربط صاحبه بالأرض وبذات الوقت يحلق به في السماء.

رواية (في الهُنا) قد تغري القارئ بالتورط بها بالنظر إلى حجمها الصغير، لكنها كأي رواية مُتقنة ومؤثرة، مثل (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي، أو (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ، أو (مديح الخالة) لماريو فارغاس، يدخل إليها القارئ بقناعة ومشاعر، ويتركها وقد طبعت بميسمها روحه بشيء لا يعرفه ولا يستطيع التفكك منه!