تزدهر فيها تجارة الموت والهياكل العظمية التي لم تفارقها الروح

مضايا السورية تموت جوعاً... وأهلها يأكلون القطط

1 يناير 1970 02:02 ص
• نبيل الحلبي: جريمة حرب موصوفة عنوانها التجويع لإجبار السكان على إخلاء مناطق

• موعودون من الأمم المتحدة بفتح ممر إنساني آمن وإدخال المساعدات إلى مضايا
هياكل عظمية لم تفارقها الروح انتشرت صورها في الأيام الأخيرة على وسائل الإعلام الإلكترونية... مشاهد مرعبة لموت بطيء عصف بأناس أجبرهم الجوع على أكل الحشائش والقمامة والقطط... أطفال، نساء، ومسنّون يموتون بعدما عجزوا عن إيجاد لقمة وباتوا يعيشون من «قلة الموت»... هذه حال الآلاف من سكان بلدة مضايا في ريف دمشق الذين يتعرضون لحصار مشدّد من النظام السوري والمجموعات المسلّحة الموالية له منذ شهر يوليو الماضي.

مَن لم يمت بالرصاص والبراميل والصواريخ يموت جوعاً في مضايا التي هُجّر إليها قسراً أهالي من الزبداني المجاورة (المحاصَرة من النظام وحلفائه) كانوا يقطنون بلدة بلودان والأحياء المحيط بالمدينة كحي المعمورة والشلاح، إضافة لعائلات نزحت إليها من الريف الدمشقي كالمعضمية وداريا، ليكون مجموع المقيمين فيها نحو 45 ألفاً نصفهم تقريباً من الزبداني.

الوضع الإنساني بات كارثياً نتيجة سوء التغذية وقلّة الدواء، ومضايا الغارقة في «مجاعة» والماضية إلى «موت جَماعي»، تكاد أن ترفع «الراية البيضاء» في ظل النكث بالوعود التي كانت أُطلقت في 28 ديسمبر الماضي بإدخال المساعدات إليها بعد تنفيذ عملية تبادُل إجلاء أكثر من 450 مسلحاً ومدنياً من الزبداني والفوعة وكفريا (الشيعيتين) الخاضعتيْن لحصار فصائل معارضة في محافظة إدلب (العملية تمت عبر لبنان)، وذلك في إطار المرحلة الثانية من اتفاق على مراحل شمل هذه البلدات الأربع وكانت توصلت إليه الأطراف المتقاتلة أي النظام و«حزب الله» وقوات الدفاع الوطني من جهة ومسلحي المعارضة (حركة أحرار الشام الإسلامية) من جهة أخرى برعاية تركية-إيرانية وبإشراف من الأمم المتحدة في 24 سبتمبر الماضي وينص في شكل أساسي على وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات.

«مضايا تموت جوعاً» ليس مجرّد عنوان، بل هو واقع مأسوي في هذه البلدة التي تتبع ادارياً منطقة الزبداني في محافظة ريف دمشق والتي كانت من أولى البلدات التي نادت مع بدء الثورة بإسقاط نظام الأسد صراحة، ما دفع الجيش السوري الى قصْفها في العام 2012.

وبعد معركة ضارية مع «الجيش السوري الحر» تم الاتفاق بين الطرفين على الانسحاب من البلدة فعاد الأهالي إليها، وخلال الفترة اللاحقة دخل «الجيش الحر» الزبداني وتم تحييد مضايا، التي كان فيها سوق مفتوحة حيث يحق للمزارعين زراعة أراضيهم في الوقت الذي كانت تعاني فيه الزبداني من معارك شديدة، وفي الصيف الماضي أطبق الحصار على مضايا وقُصفت ببراميل النظام منذ بدء المعركة على الزبداني.

الصور ونداءات الاستغاثة التي تتوالى من مضايا تذكّر بالمجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، وسط حديث السكان عن أنهم بدأوا يأكلون الثلج والحشائش، بعدما نفذت أوراق الشجر، فيما فُقد الحليب الذي تجاوز سعر الكيلو المجفف المهرّب منه 300 دولار مقابل أكثر من 180 دولاراً لكيلو الأرز. حتى ان أحد الأشخاص عرض مقايضة سيارته بعشرة كيلوغرامات من الأرز لكنه لم ينجح في بيعها.

كما نشرت صفحة «أدبيات الحصار في مضايا» على «فايسبوك» صورة لعملية ذبح الأهالي للقطط وأكلها، مرفقة بتعليق: «لم نعد بحاجة لفتاوى الشيوخ كي نأكل لحم القطط، لأننا وُضعنا بين حدين للسيف... إما الموت جوعاً و إما بالألغام التي تحيط بسجننا»، في إشارة إلى الألغام التي زرعتها قوات النظام السوري والمسلحون الموالون لها منذ سبتمبر في محيط مضايا، والأسلاك الشائكة التي «زنّرتها» وفصلتها عن المناطق القريبة منها لمنع أي عملية تسلل منها وإليها.

وفيما أشار آخر التقارير إلى وفاة العشرات في مضايا بينهم أطفال ونساء، قضوا إما بسبب النقص في المواد الغذائية وإما نتيجة الألغام وإما إصابتهم برصاص قناصة أثناء محاولاتهم تأمين الغذاء أو جمع أعشاب عند أطراف المدينة، كشفت معلومات من داخل البلدة أن معاناة المدنيين المحاصَرين ازدادت مع انخفاض درجات الحرارة بشكل كبير وتَساقُط الثلوج، في ظل فقدان وسائل التدفئة وانعدام الكهرباء، ما دفع الشيخ عبد الله المحيسني القاضي العام لجيش الفتح، إلى توجيه تهديد شديد اللهجة لإيران التي اتهمها بأنها مَن يحاصر البلدة، بـ «إبادة» بلدة الفوعة التي يحاصرها «جيش الفتح» في إدلب.

ممثل شباب الحراك الثوري ابن الزبداني الناشط علي ابراهيم شرح لـ «الراي» كيف وصلت مضايا إلى الهاوية قائلاً: «عندما كانت الزبداني محاصَرة قبل ثلاثة أعوام، كانت مضايا بمعزل عن هذا الحصار نتيجة تسوية مع النظام، وكانت ملجأ للنازحين. ومع ذلك لم يكن النظام يسمح بإدخال كل المواد الغذائية إليها، وعندما بدأت معركة الزبداني في الصيف الماضي قام الجيش السوري بتهجير الأهالي الموجودين على أطراف هذه المدينة إلى مضايا مانعاً إياهم من أخذ الطعام واللباس. وأيضاً تمّ إخراج العائلات التي كانت نزحت في وقت سابق من الزبداني إلى بلودان فلجأوا بدورهم إلى مضايا ليصبح عدد سكان هذه البلدة الصغيرة نحو 45 ألف نسمة غالبيّتهم العظمى من الزبداني والبقية من مضايا وبقعين».

عندما انطلقت معركة الزبداني، نفّذ الجيش السوري و«حزب الله» حصاراً مطبقاً على البلدة حيث تم وقف دخول أي من المساعدات الغذائية أو الطبية، ليبدأ نقص المواد الغذائية وظهور المجاعة بشكل تدريجي.

ولفت إبراهيم إلى ان «الناس كانوا يلجأون في بداية الأمر إلى أكل الأعشاب الموجودة في المناطق الزراعية القريبة للمنازل أو للأماكن الترابية التي لا تحتوي ألغاماً كون هناك عدد كبير من الألغام زرعها (حزب الله) والجيش السوري في الحقول والجبال ما أدى إلى مقتل العديد من الأطفال عدا عن حالات البتر التي شهدناها. ولا توجد أي موارد اليوم ولا سيما بعدما قطع الحزب كل أشجار سهل الزبداني المعروف بخضرته، وهو حالياً صحراء قاحلة».

الأمور وصلت إلى الحد الكارثي في هذه الفترة القريبة بعدما «اختفت المواد الغذائية وبدأ الناس يُستنزفون بشكل كامل من تجار الدم المتعاونين مع (حزب الله) والنظام الذين رفعوا الأسعار تدريجياً من 20 دولاراً لكيلو الأرز إلى خمسين فسبعين دولاراً واليوم وصل إلى 180 دولاراً، كذلك البرغل والسميد والزيت التي وصل سعرها إلى 180 دولاراً، ليلامس كيلو الحليب المجفف 300 دولار. ورغم الأسعار المرتفعة فإن الكميات محدودة».

والنقطة الأساس في هذا الملف هي اتفاق الهدنة الذي ربط الزبداني بكفريا والفوعة والذي ينص على رفْع الحصار عن مضايا بالتزامن مع إجلاء الجرحى ومدنيين من هذه البلدات أو بعده فوراً، إلا أنه حتى الآن لم يرفع الحصار ولم تفتح الطرق الآمنة لخروج السكان.

وعن هذا أشار إبراهيم إلى أنه على إثر اتفاق الزبداني - الفوعة - كفريا «تم إدخال مواد غذائية إلى مضايا قبل أشهر لكن للأسف ثلثاها كان فاسداً ما أدى إلى كارثة طبية، ولا سيما أن النقطة الطبية الموجودة في البلدة صغيرة لا تستطيع استيعاب 45 ألف إنسان غالبيتهم أطفال وعجائز يعانون أمراضاً مستعصية وهم ممنوعون من الخروج بسبب سيطرة (حزب الله) على المنطقة، لكن بعد عملية الإجلاء الأخيرة للجرحى، كان الوعد بإدخال المواد الغذائية إلى مضايا بعد يومين وهذا لم يحصل»، واستطرد: «لذلك نتواصل مع مكتب دي ميستورا والأمم المتحدة والمنظمات الدولية ونطالب حالياً بفك الارتباط عن كفريا والفوعة أو بتحييد المدنيين وفقاً لمبادئ جنيف وحقوق الإنسان لأن ما يحصل يندى له الجبين. ونتمنى على الأمم المتحدة التي كانت راعية للهدنة إدخال المواد الغذائية وفك الحصار عن البلدة خصوصاً أن سكانها غير مسلحين، علماً أننا لا نريد إدخال مواد غذائية فقط واستمرار الحصار لنعاود الدخول في مجاعة ثانية ونكون كمَن أخذ إبرة مسكن».

وأشار إلى تصاعد حالات الوفيات نتيجة الجوع «إذ استشهد حتى الآن 62 شخصاً جوعاً بالإضافة إلى عدد من الشهداء سقط برصاص القنص من حواجز النظام التي تحاصر البلدة والبعض قُطعت أرجله بانفجار الألغام عندما كان يحضر لأولاده حشائش من خراجات البلدة».

وفي السياق نفسه، شرح مدير مؤسسة «لايف» المحامي نبيل الحلبي، الذي تابع عن كثب اتفاق الزبداني - الفوعة - كفريا وعملية تبادُل إجلاء الجرحى، لـ «الراي» إن الاتفاق بدأ قبل أشهر «حين حصلتْ هدنة قابلة للتجديد وتم على أساسها إدخال مساعدات إنسانية إلى مضايا وكفريا والفوعة، لكنها بمعظمها كانت غير صالحة ما أدى إلى حالات تسمم. وتوقفت بعدها المساعدات، لتبرز مشكلة إخراج الجرحى من الزبداني وكفريا والفوعة فتمّ الاتفاق في المرحلة الثانية على ذلك، وهو الأمر الذي حصل قبل نحو اسبوعين. والآن من المفترض أن تدخل المساعدات بعدما جرى تنفيذ المرحلة الثانية من إجلاء الجرحى، لكن كما نعلم المشكلة أننا في مرحلة أعياد ومكاتب الأمم المتحدة في إجازة، وهذه بيروقراطية الأمم المتحدة المكلفة. لكننا موعودون بذلك وبفتح ممر إنساني آمن».

وأضاف: «قبل أشهر أُرسلت سيولة مادية للأهالي من جهات مانحة وجمعيات ومنظمات دولية وليس من الأمم المتحدة. لكن الجيش السوري يمتصّها ببيع السكان المواد الغذائية بأسعار خيالية، وهذا ما أدى إلى تجويع الناس وموت نحو 3 أشخاص يومياً في مضايا وبقين».

«واضح أنها عملية تجويع لإجبار السكان على إخلاء هذه المناطق»، بحسب الحلبي الذي قال: «هذا الأمر يحصل أيضاً في المعضمية ودوما حيث يتم توزيع مناشير من الجيش السوري فحواها أنه إذا كنتم تريدون الحصول على غذاء فعليكم التوجه إلى ما بعد حاجز النظام وبالتالي الانسحاب من المنطقة، وهذا الأمر جريمة حرب موصوفة وعلى الأمم المتحدة التدخل ومنع حصول هذا الأمر». ولفت إلى «أن هذا السلوك بدأ في حمص القديمة قبل أشهر وفي حي الوعر منذ شهر حيث نجح النظام في مكان ما بإرغام المدنيين على أن يستبدلوا الجوع بعملية إخلاء المناطق، وهذا التهجير القسري للسكان الذي رعته الأمم المتحدة في حمص القديمة يجب ألا يمرّ في ريف دمشق، بل على العكس المفروض منها أن تمنع أساليب استثمار الحصار التجويعي لأغراض عسكرية، كما عليها أن تتخذ إجراء فعالاً لوقف هذا الأمر وليس فقط إدارة الأزمة كما حصل في حمص القديمة حيث كل ما استطاعت فعله هو وضْع باصاتها في تصرّف المدنيين الذين يريدون الخروج».