قصة قصيرة
الوقائع المصاحبة لافتقاد سعد
| تسنيم الحبيب |
1 يناير 1970
05:07 ص
نسرين:
سيلقون اللوم عليّ، كلهم، سيفعلون ذلك بلذة لا تناسب وقع بكائهم، ستتشعب اتهاماتهم/ جناياتي وتطغى حتى يلطخوني بالإدانة، سيفعلون ذلك قبضا على راحتهم الهاربة بعد هذه الفجيعة، يلوكونني بالتثريب مُذ ساكنتهم في هذا البيت العاج بأطفالهم وتضييعهم، وهذه المرة سأتآكل حتى أصدقهم!
في السابق، و رغم كل تلك الأمور، كانت تمضي الأشياء بـ لومهم و تغيب كما سُحب الصيف، تعود الأمور بعد برهات من الصمت والأبواب المغلقة، و تسير في دائرتها الأبدية، يلومونني، أصمت، أعتصم بغرفتي، تطعنني ليلتي بغضبي وحزني، و في الصباح أكشط بؤسي لأرتدي ثوب الرضوخ، ونكتفي بالتعاطي بالنظرات المدببة، هذه المرة لن تسير الأمور بهذا النحو، فما جرى لا يُنسى.
سيقولون: أنت السبب!
نعم أنا طردت سعد من غرفتي، و لكن بربهم، هل تلك جناية لا تغتفر؟
ما الذي كنت سأفعله؟ في تلك الظهيرة، و البيت يضج بصخب سعد و مشاغباته، و«مريومة» تستعد لاختبار آخر الفصل، وتطلب مني أن أخرس هذا الهياج؟
عجزت، نعم عجزت، فسعد ليس مجرد طفل في السابعة، بل رصاصة على فوهة بندقية، ألا تدعوه جدته بـ «الجني»؟!
يفتح الثلاجة، يلقي بالبيض، يتقافز على الأرائك و ينثر الوسائد، يثقف علب العصير ويحملها مهرولا؛ ووووو... ووووو!
يأخذ اللهاية من فم الصغير، وينتشي ببكائه و غضبي.
وإذا نهرته، بصق وهرب!
ولماذا يتوجب عليّ التحمل؟ هل يقع هذا العبء المقيت على كاهلي وأنا زوجة العم؟ و ما ذنبي إن كان يتيم الأب، هربت منه أمه إلى زوج آخر، وبقي هو في ظل الوحدة؟
يقولون لي: يحتاج احتواء... وأنا ألا أحتاج الهدوء في هذه الظهيرة القميئة؟
تطرده عمته، تطرده جدته، لما أبقيه أنا في غرفتي؟ ألا يملؤني صخب أطفالي؟
سيقولون: لو تحملته لما حصل ما حصل.
حسنا ماذا عن اختبار مريم؟ ماذا عن راحة أبي أولادي؟ ماذا عن كل هذه التعاسة الكبرى؟ ماذا عني؟
أم عبد الله:
آه يا حزني، آه يا قلبي، ألا تمل مني المقابر؟
اليوم، يوم الدفن، سأدفنك يا سعد يا حبة قلبي، يا بقية ولدي الحبيب عبد الله، سأدفن جسمك الضئيل، لتبتلعه غيبة القبر، سأعيدك لوالدك بأية حالة؟ بجسد مرضوض، ورأس مشجوج، و وجهه زاده الإسفلت جراحا على جراح الشجارات المدرسية، سأدفنك لتبرحني الذكريات بسياطها الغشومة، اليوم أنت و بالأمس والدك.
اختلسني كل هذا الشقاء، باغتني في ظهيرة الشؤم تلك، انسللت مني كماء في غربال، وتناثرت على أرض الشارع.
لم أرَ ما جرى، و لكني سمعت، كنت أطفو في نومة خفيفة بعد وجبة الغداء، أيقظني صراخ نسرين، فكرت أنها في جوقة أولادها، حاولت العودة للنوم، أوشكت أن أنغمس بالغياب، أفزعني صوت مهوول، ثم صرير طاغي لعجلات سيارة، قلت: خير إن شاء الله، أكلني قلق ما، لم يعطني قلبي الإذن بممارسة اللامبالاة، ثمة خطب بجري، اقتحمت علي «الخادمة» غرفتي:
«ماما... سعد»!
سعد!
نفرت من فراشي، تيبست عظامي الشائخة، عندما تلفعت بأبرادي وهبطت إلى الشارع، كانت سيارة الإسعاف قد حملت الولد، و أبقت حمرة دمه تفجعني.
آه يا قلبي، آه يا سعد، آه يا وجع المقابر!
تأتيني أمه، ترتمي على صدري، منتفخة من البكاء، لا أستطيع احتضانها، يداها أمامي ملطختان بإهمالها، لو بقت لترعاه، لما صار شرسا يحسد الأطفال على دفء الحنان، لو لم تهرع خلف زوج جديد، لما كانت هنا الآن، تسح بدموع كالحة!
أستغفرك ياربي، لو تفتح أمل الشيطان.
ولكنهن هكذا، الكنات- كلهن- أنانيات!
تلك نسرين، المتمسكنة، المغلوبة على أمرها، التي تحب ارتداء ثوب العاجزة، تلك لو تحملت، لو صبرت، لو أبقته في غرفتها يلعب بالـ «سوني» مع أطفالها إلى أن أقوم من رقدتي، لو قالت لنفسها الدنيئة: أكسب في هذا اليتيم «المُهمَل» أجر وأريح خالتي العجوز، لو سعت في تزويده بقليل من المحبة، لو أضافت علبة عصير على مؤونتها لتعطيه، لو أضافت قطعة شوكولاتة لخزانتها نصيبا له، هل كانت ستتكلف؟ هل ترهقها100 فلس مضافة لشراء مثلجات إضافية له تحملها كما تحمل لأطفالها؟ لو أخذته معها إلى الجمعية في مرة كما تفعل يوميا مع عيالها، أما كان سيركد ويقنع ويطمئن إلى نفسه؟
طردته المسكين، فخرج غاضبا إلى الشارع، وقفز برعونة أمام السيارة التي دهسته قسرا، كيف أصفح عنها؟
أبو غسان/ بائع المثلجات:
الثالثة تماما أخرج من مسكني في الفروانية، بعد غفوة شحيحة، أجر عربتي وأصيح:
«بريّد... برّيد».
أصل إلى هذا الحيّ في الرابعة أو الرابعة والربع، تخرج إليّ الخادمة بنصف دينار لشراء ثلاث من المثلجات، لولو، و2 صاروخ.
بعدها مباشرة يخرج ولد السابعة، يلقي عليّ بالونا منتفخا بالماء، ينفجر عند طرف العربة ويدهورني، أو يسكب الزيت في طريقي، أو يسرق من العربة ما تيسر ويهرب، أتعجب من حاله، إن سلمت منه أنا، أراه يلاحق القط ويمسكه من ذيله، أو يسعى إلى أشجار الكونوكاربس وينتزع أوراقها، أضرب جرس الباب، أحاول أن أشكو حاله لأحد في ذاك البيت الأبكم ولا من مجيب، صرت أكره هذا الحي، لولا الرزق والنصف دينار الثابت.
تلك الظهيرة وصلت مبكرا، ناديت بصوتي العالي:
«بريد... بريد»
لم يأتِ أحد، قلت أنتظر قليلا، أمسكت هاتفي، و إذا بصبي السابعة يظهر بعصاة بسملت وحوقلت، حاولت تغيير وجهتي، اعترضني بعصاه، قلت له: لا أريد مشاكلا!
أخذ يضرب عربتي، حاولت إمساك يده، فر مني بضآلته قاذفا نفسه إلى الشارع موليا وجهه صوبي مادا لسانه بهزء، وإذا به تحت رحمة عجلات سيارة مدهوشة، انبثق صوت عظيم! تصنمت في لحظتي، هبط السائق يضرب رأسه:
«والله ما رأيته... والله ما أريته»!
غامت عيني، جف ريقي، صرت أردد بعده:
«والله كلنا ما رأيناه»!