كان رجل المهمّات الصعبة في زمن الحرب اللبنانية وبعدها ابن «الشهابية» المدلّل

فؤاد بطرس... عايش لبنان قرناً من الزمن ورحل قبل أن يراه يعود إلى سابق عهده

1 يناير 1970 03:38 م
• فؤاد بطرس الديبلوماسي الصلب... وصفه حافظ الأسد بـ «كيسنجر لبنان»

• كان محاوراً عنيداً لحافظ وقال لبشار «لم يعد لدينا ما نعطيه ولا يمكن إلا أن نأخذ»

• بطرس الأرثوذكسي الصلب الذي أقال قائد الجيش وأثار حساسية الزعماء الموارنة

• بقرادوني وصفه بـ «أستاذ الواقعية وفيلسوف التشاؤم»

• أوصاه شهاب قبل ساعات من وفاته بعدم حمل «السلّم بالعرض... بل بالطول»
ودّع لبنان الوزير السابق فؤاد بطرس، «آخر عنقود» رجالات الدولة الذين طبعوا الحياة السياسية بوجهها الجدّي والمدني والمضيء.

في كنيسة مار نقولا في الأشرفية، أقيمت مراسم التشييع بحضور رسمي وسياسي وديبلوماسي حاشد، عكس المكانة المرموقة التي احتلّها «عميد الديبلوماسية» اللبنانية وآخر قاماتها.

عن 95 عاماً رحل رجل المهمات الصعبة الذي كان وُلد في السنة الأخيرة للحرب العالمية الأولى، وعاش قبل دولة لبنان الكبير وبعده، في عصر الانتداب وفي عصر الاستقلال.

أن يعيش رجل كفؤاد بطرس في «العصر الذهبي» للبنان وفي حربه الطويلة وما قبل اتفاق الطائف وما بعده، فيعني أن في جعبة الرجل الذي غاب غداة رأس السنة، الكثير من الأسرار التي لم يفْشها كلّها حين روى مذكراته للكاتب انطون سعد ونشرها في كتاب بعنوان «المذكرات».

كتب عنه الكثير ممن عايشوه وممّن عملوا معه وتعرّفوا إليه، هو الأرثوذكسي ابن الأشرفية، وابن مصرفيّ جار عليه الدهر لاحقاً، وهو الصامت والمثقف والمفكّر، القاضي ومن ثم المحامي ورجل الشهابية الأول، والدقيق والمحنّك، والمتشائم بطبعه ومعرفته الواسعة بالأوضاع والأسرار غير المنشورة، وخصم كثير من السياسيين الذين عادوا الشهابيين. لكنه يبقى لمَن عرفوه عن كثب وكما كتب عنه خليل رامز سركيس «لبناني أصيل».

فؤاد بطرس رحل قبل أن يكمل أعوامه المئة، وقبل أن يرى لبنان يعود إلى سابق عهده، هو الذي أَحبّه وعمل له من خلال مناصب عدة تولاها ولا سيما وزارة الخارجية التي طبعت حياته السياسية.

هو من ذلك الرعيل السياسي الذي شقّ طريقه بعمل دؤوب ودقة متفانية، ومن تلك الطبقة من المحامين التي عرفها لبنان مع بدء تَكوُّن النظام السياسي، فغلبت على ما عداها، ومن الطبقة السياسية الأرثوذكسية التي سعت إلى أن تكون في الصف الأول يوم كانت القيادات السياسية المسيحية مارونيةً في غالبيتها.

في كتابه «السلام المفقود» يصف الوزير السابق كريم بقرادوني بطرس الذي عمل وإياه في فريق الرئيس الراحل إلياس سركيس قبل أن يصبح وزير خارجية العهد 1976 -1982 بأنه «شهابي عتيق يعترف له القاصي والداني بذكاء حاد وتجربة عميقة في الشؤون السياسية والدولية. براغماتي يتصدى للحقائق بلا أفكار مسبقة أو مواقف جامدة. أستاذ الواقعية وفيلسوف التشاؤم. شامخٌ عصبي غيور على صلاحياته وضنين بأفكاره. قليل الشعبية وغير محبوب. هذا ثمن النجاح خاصة أنه لا يحب ديماغوجية الزعماء السياسيين ولا ثرثرة المثقّفين العاجزة».

ويروي بطرس في مذكراته أنه كان مقدَّراً له أن يتجه إلى الأعمال أو المهن الحرة، لكن تَمرُّسه أولاً في القضاء ومن ثم في المحاماة، أدى إلى شهرته. أما دخوله السياسة فيعود الفضل في ذلك إلى الرئيس فؤاد شهاب، وقد ارتبط اسم فؤاد بطرس بالشهابية فالتصقت به الصفة التي لا يعود لمَن اشتهر بها أن ينزعها عن نفسه، إذ تكون شهابياً أو لا تكون، وبطرس عاش ومات شهابياً، ودفع ثمن انتمائه عزلة قاسية إبان عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية (1970 - 1976)، إلى أن أطلّ مجدداً مع انتخاب شهابيّ آخر هو إلياس سركيس رئيساً للجمهورية في 1976.

العام 1959 استدعاه شهاب الذي كان أصبح رئيساً للجمهورية بعد ثورة عام 1958 في 30 سبتمبر «يوم قرر تَجاوُز طبقة سياسية راقبها طوال ربع قرن وعرف محدوديتها (...) كان هو يفتش وأنا كنتُ نضجتُ وانطلقتْ مذاك رحلتي مع الشأن العام إلى جانب رئيس الجمهورية».

يقول بطرس إن اللقاء الذي جمعه بشهاب في منزل الأخير في جونية كان «الأهمّ لي معه رغم أن علاقتنا ابتداء من ذلك التاريخ امتدت في العمق والزمن». وشرح شهاب لبطرس رؤيته لبناء الدولة وطلبَ منه المساعدة «لإقامة دولة بالمعنى الصحيح». وأصبح بطرس وزيراً للتربية والتصميم للمرة الأولى في حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي إلى جانب وزراء محنّكين مثل بيار الجميل وفيليب تقلا وحسين العويني.

لكن دور بطرس إلى جانب شهاب، كان أوسع وأكبر من دور وزير للتصميم والتربية، فهو أصبح من فريق عمل شهاب ومقرباً منه إلى حد قوله إن إلياس سركيس وكان مدير عام غرفة رئاسة الجمهورية آنذاك أخبره أن شهاب «أوصاه بأن يعود إليّ لأخذ رأيي في كل مسألة دقيقة تُطرح أمامه».

ظلّ بطرس أميناً لأفكار شهاب ومخلصاً لعهده الذي أصبح خلاله نائباً عن بيروت ونائباً لرئيس البرلمان، ووزيراً مرة أخرى بعد الانتخابات النيابية العام 1960، متولياً حقيبة العدل في حكومة كرامي أيضاً.

حدَثان طبعا حياة بطرس الوزارية في عهد شهاب، الأول حمل مفارقة أساسية وهي أن مشاركته الأولى في حكومة كرامي شهدت إقرار قانون 1960 الانتخابي، وهو القانون الذي أعيد إحياؤه في حكومة الرئيس عمر كرامي العام 2005 ومن ثم اعتُمد في اتفاق الدوحة (2008)، والمفارقة أيضاً أن بطرس كُلف في 2005 بترؤس اللجنة الوطنية لقانون الانتخاب التي ضمت مجموعة من الحقوقيين لدرْس قانون انتخاب جديد ووضعت قانوناً بات يُعرف باسم قانون فؤاد بطرس (قام على نظام مختلط يجمع بين نظام الاقتراع الأكثري والنظام النسبي) لكن لم يُعمل به حتى اليوم.

أما الحدَث الثاني فهو انقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي العام 1960 إبان توليه حقيبة العدل. وهو يولي الحديث عنه في مذكراته أهمية من خلال إصراره على عمله لمنع تدخلات السياسيين بمن فيهم القصر الجمهوري مع القضاة، في طريقة التحقيقات ومحاكمة القوميين.

عهد الرئيس شارل حلو

مع انتهاء عهد شهاب، وتَسلُّم الرئيس شارل حلو مهمات رئاسة الجمهورية، بقي بطرس أحد أركان الشهابية السياسية، واقترح شهاب على حلو توزير بطرس في الخارجية، وحين سأله بطرس لماذا لم يسلّمه حقيبة الخارجية في عهده، أجابه شهاب أن الخارجية تقتضي إضافة إلى الإطلاع الدولي الواسع، فهماً دقيقاً للأوضاع الداخلية وتمرُّساً فيها. كان شهاب أيقن بعد ست سنوات من عهده أن ابن الشهابية المدلّل أصبح جديراً بحقيبة الخارجية.

وفي العام 1968، اختار شارل حلو بطرس للخارجية، بعدما كان وزيراً للدفاع عام 1966، ومن حينه لم تُطرح عليه حقيبة إلا الخارجية «وربما هذا ما نجحتُ به وأهّلني لرئاسة الديبلوماسية اللبنانية في أكثر من ظرف تاريخي دقيق ولسنوات عدة لاحقاً».

ويقول بطرس إن شهاب أوصل حلو إلى الرئاسة لكن الأخير لم يعمل لدعم الشهابية بل مالَ نحو خصومها، وهو لم يفهم موقفه إلا «من باب الرد على تصرفات بعض ضباط الشعبة الثانية الذين لم يحسنوا التصرف معه».

وزيراً دائماً للخارجية

بانتهاء عهد حلو انتهت رسمياً مرحلة الشهابية كما يقول بطرس الذي انصرف في عهد الرئيس سليمان فرنجية إلى مكتبه للمحاماة «ولم تكن لي إلا زيارات نادرة لرئيس الجمهورية». ويروي أن أهمّ السياسيين وأبرزهم تدرجوا في مكتبه بين 1970 و1975 ويعدّد منهم «امين الجميل ومنير حنين وسيمون كرم وفيليب خيرالله وزكريا نصولي وفؤاد السعد وبهيج طبارة الذي صار لاحقاً شريكه يتحمل معه المسؤولية أثناء توليه حقائب وزارية».

وبعدما ابتعد بطرس عن الحياة السياسية في عهد الرئيس فرنجية، عاد إلى الضوء مجدداً وزيراً للدفاع ووزيراً للخارجية في عهد سركيس الشهابي حتى الرمق الأخير.

بين وزارة الدفاع والخارجية سلسلة أحداث ميّزت عمل بطرس، في مرحلةٍ حساسة كان لبنان يشتعل فيها بالقذائف والتفجيرات وبالحرب الطاحنة، وتحوّل دوره كوزير للخارجية دوراً مفصلياً في العلاقات اللبنانية - السورية بعد الدخول السوري إلى لبنان (1976)، وفي المحافل الدولية حيث كان لاعباً بارزاً للدفاع عن القضية اللبنانية، وهو الذي اقترح تعيين خصمه وصديقه اللاحق غسان تويني سفيراً في الأمم المتحدة، بدلاً من واشنطن كما كان ارتأى سركيس.

المرة الأولى التي يُسجل فيها عزْل قائد الجيش الماروني كان على يد بطرس الأرثوذكسي. هي ليست مفارقة سهلة في بلدٍ كان يشتعل بالنار الطائفية. لكن بطرس حصل على تغطية من الرئيس سركيس، وهو يروي أسباب اتخاذه قرار عزله ويروي أنه حين ذهب إلى وزارة الدفاع بعد (حرب السنتين 1975 - 1976) لاحظ أن ما من ضباط مسلمين بين مَن يلتقيهم، وحين سأل قائد الجيش العماد حنا سعيد أجابه «إنهم لا يستطيعون المجيء إلى وزارة الدفاع ولا أستطيع تأمين حمايتهم». فردّ بطرس «كيف تقبل وأنت قائد للجيش أن يتعذّر عليك تأمين سلامة الضباط المسلمين؟»، ويقول «شعرتُ بأنه يتصرف بإيحاء ما لا يتفق مع قناعاتي، فتوجستُ منه وشككتُ بكونه يتناغم مع مَن يتخذون من الوضع الأمني ذريعة ليتم تكريس انقسام الجيش طائفياً».

اتخذ بطرس قرار استبدال سعيد، وحين فاتح الرئيس الراحل كميل شمعون بالأمر رفض ذلك بسبب «التضحيات التي قدّمها دفاعاً عن الشرعية خلال حرب السنتين». وأصرّ بطرس على موقفه، واستدعى سعيد وأبلغه قراره، وبأنه لا يستطيع التعامل معه لكنه لا يرغب في المسّ بكرامته عارضاً عليه تعيينه سفيراً في إحدى دول أميركا اللاتينية.

وقد رفض سعيد العرض وقبل انعقاد مجلس الوزراء لتعيين خلف له، انفجرت عبوة ناسفة موضوعة بين باب المصعد وباب منزل بطرس في الأشرفية، وفي خلاصة الأمر عزل مجلس الوزراء سعيد وعيّن فيكتور خوري مكانه بإصرار من بطرس، الذي اتّهم بطريقة غير مباشرة سعيد بالوقوف وراء العبوة. ويروي أن سعيد جاءه مهنئاً بالسلامة، ومؤكدا أنه ليس الفاعل وان الجبهة اللبنانية (تضم الأحزاب المسيحية) هي التي طلبت منه رفض منصب السفير.

كانت علاقة بطرس بـ(الجبهة اللبنانية) سيئة، لا يجمعه ودّ مع ركنيْها بيار الجميل (الذي شارك معه في لائحة واحدة في انتخابات بيروت في عهد شهاب) وكميل شمعون اللذين كانا مع العميد ريمون اده أركان (الحلف الثلاثي) المعارض لشهاب.

وظلت هذه العلاقة أحد أسباب التوتر القائم بينهم خلال توليه حقيبة الخارجية في عهد سركيس، لكنها عكست أيضاً في جانب أساسي تلك الحساسية بين شخصية سياسية أرثوذكسية والزعامات المارونية التقليدية، ولا سيما بينه وبين شمعون.

ويقول بقرادوني: «طوال ستة أعوام لم تكن ثمة وزارة للخارجية في لبنان بل كان هناك وزير كبير». ويشير إلى أن كثيرين حمّلوه تبعات الإخفاقات في عهد سركيس. ويروي أن بطرس تحفّظ يوماً على اتفاق بين سركيس والرئيس حافظ الأسد عام 1978 فقال له الأسد «يا اخ فؤاد، معاذ الله أن تبدأ التشبّه بكسينغر. كلما كنا نعقد اتفاقاً مع نيكسون كان كيسنغر يأتي ويخرْبطه».

العلاقة مع سورية كانت شغله الشاغل، في ولاية سركيس. زار دمشق مراراً، واختلف مع المسؤولين السوريين وتَحاور معهم، ولعلها الفترة الأكثر حساسية في حياته السياسية، والتي يفرد فيها الكثير من الصفحات في مذكراته، كونها حفلت بكثير من الأحداث، من الاجتياح الاسرائيلي، والتدخل السوري ولقاءات القمة اللبنانية السورية.

ثمة الكثير من الروايات حول لقاءاته مع المسؤولين السورين وشدّ الحبال بينه وبينهم، في تأليف الحكومات وفي تهدئة الأوضاع الامنية وفي الكلام السوري عن الشخصيات اللبنانية.

وقائع وسجالات، حاول خلالها بطرس تحييد لبنان عن التأثيرات السورية المباشرة. ويقول بقرداوني عنه: «حاول المحافظة على الوضع الراهن عن طريق التفاهم مع سورية، مع اجتناب تحويل لبنان حكراً لسورية»، ويضيف «إن سورية تهيمن ولبنان يحتاج إلى ثقل يوازي بها».

لكن أفضل اختصار لنظرته إلى دمشق وتعاطيها مع لبنان، هو ما قاله للرئيس بشار الأسد الذي طلب منه العام 2000 التوسط بينه وبين القيادات المسيحية، وأبرزها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وقد سأله الأسد ماذا يمكن القيام به لتحسين هذه العلاقات؟ فأجابه بطرس: «لم يعد لدينا شيء نعطيه. ليس من الممكن إلا أن نأخذ. على أن تبدأ بإعادة النظر بالاتفاقات المعقودة بين البلدين في عهد والدك لأن فيها إجحافاً في حق لبنان».

ينهي بطرس مذكراته خائفاً على لبنان «المهدَّد في كيانه ووجوده وهويته». هو المتشائم، روى كيف ودّعه شهاب قبل وفاته بثلاث ساعات، طالباً منه عدم حمل «السلّم بالعرض بل بالطول». هو الذي ظل يحنّ إلى الشهابية، يروي بقرادوني كيف واجهه الرئيس حافظ الأسد في أول حكومات عهد سركيس برفض إحياء المعادلة الشهابية (التي مرّ عليها الزمن).

هو الذي لم يرضخ للتهديدات الفلسطينية إبان حرب لبنان، ووقف في وجه الاجتياح الإسرائيلي وخطب في المحافل الدولية مدافعاً عن حقّ لبنان في تحرير أرضه.

رحل بطرس وفي قلبه غَصة على بلدٍ عايشه قرناَ من الزمن، شهد فيه ولادة زعماء وغياب زعماء آخرين، لعلّ في كلمات الوداع التي قيلت عنه بالأمس، كان هناك وداعٌ لجيل من السياسيين المثقفين، المحنّكين، ووداعٌ لزمن انتهى الى غير رجعة.