كتاب / صدر عن مؤسسة البابطين الثقافية

النجدي يكشف عن «الآخر الغربي في مرآة الشعر العربي»

1 يناير 1970 07:48 ص
تجليات صورة الغرب كما تنعكس في إبداع شعراء النهضة الأدبية العربية الحديثة، هو الموضوع الرئيس والمهم الذي عالجه الكتاب الجديد للأستاذ المساعد في الجامعة العربية المفتوحة الدكتور إيهاب النجدي، وقد صدر عن مؤسسة البابطين الثقافية في أكثر من أربعمئة صفحة، تحت عنوان «صورة الغرب في الشعر العربي الحديث».

واتخذ الكتاب سبيلين لتحقيق غايته: التحليل المضموني، والتحليل الفني، وفي كليهما كان التركيز على شعراء الرحلة إلى الغرب الذين تأسست رؤيتهم على المعرفة، والتفاعل الإنساني. واتسعت مساحة الاستكشاف لتضم الاتجاهات الأدبية الرئيسة في تلك الفترة التي تدهش القارئ حقا بتلك الرؤى الإنسانية البديعة والدعوات الرائدة لمعالجة قضية القضايا الآن «الحوار بين الحضارات والثقافات».

وصورة الغرب ليست الغرب بالتأكيد، لكنها انطباع حقيقة الآخر في مرآة الذات، وهي مقاربة له، وحسبها أن تكون مقاربة عميقة الإدراك، شفيفة الدلالة، أنتجها شعراء النهضة الأدبية الحديثة في مصر، في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد تشكلت في الأساس من تأمل الواقع المعيش، وطول الاحتكاك والتحصيل المعرفي، واستقبلتها المخيلة لتنطلق بها عبر قنوات عديدة من الأفكار الموروثة والرؤى الحاضرة، والمشاعر المتداخلة، أي أنها مرت بأكثر من مصفاة حتى استقرت في نهاية المطاف صورة للآخر الغربي وصورة منه، نمسك من خلالها بالآخر أو بعضـه، وإذا تعذر احتواؤه كل الاحتواء؛ فإن أثره يبقى ظاهرا للعيان، والإحساس به يظل موجودا.

تسعى الدراسة إذن إلى الكشف عن رؤية الذات الشاعرة للغرب بأبعاده الموافقة والمغايرة، واستجلاء الروح الإنسانية التي تتمتع بها تلك الذات، وصلة ذلك بالقيم الفكرية والحضارية والخلقية التي تتكئ عليها، ورصد دعوة الشعراء إلى وحدة إنسانية تنبِذ العداء وتؤسس للتسامح والإخاء.

يقول أحمد شوقي (ت. 1932):

ما كان مُخْتَلفُ الأديان داعيةً

الكُتْبُ والرسلُ والأديان قاطبةً

محبةُ اللهِ أصلٌ في مراشدِها

تسامحُ النفس معنىً من مُروءَتِها

إلى اختلاف البرايا أو تعاديها

خزائنُ الحكمة الكبرى لِواعيها

وخشيةُ الله أُسٌّ في مبانيها

بل المروءةُ في أسمى معانيها

وكما اتسعت مساحة الاستكشاف لتضم الاتجاهات الأدبية الرئيسة في تلك الفترة: الاتجاه المحافظ البياني، والاتجاه الديواني، والاتجاه الوجداني. فإنها اتسعت لتضم أسماء مغمورة، تجاهلها الدرس الأدبي، ووطنت في أودية النسيان، إيمانا من الباحث بأن خريطة الأدب العربي الحديث، لم تكتشف كل معالمها حتى الآن، ولم تزل هناك مناطق مطمورة، وأخرى مجهولة، والتأريخ الحقيقي للأدب لن يتحقق على وجهه الأكمل إلا بالرجوع إلى المصادر الأولى له، والدوريات في هذا الصدد من أغنى المصادر في القرنين الأخيرين. والحق أنه دون ذلك مشقات وأهوال، لكن الحصاد الذي يرتجى وفير خصيب، ذلك إن صحت العزيمة وقويت الإرادة، وثارت نخوة في نفوس القوم، أما الاكتفاء بالقامات الأدبية العالية، والاحتفاء بها دون غيرها، فهو التوقف عند الأشجار الضخمة التي تحجب خلفها أشتاتا من الأزهار والشجيرات، ومن تآزرِ الجميع يتكون مشهد الغابة المهيب.

وتضم هذه الدراسة فصولا خمسة، وتمهيدا عالج مفهوم الغرب وما تطرحه تلك الكلمة العصية على التعريف الجامع المانع من دوائر دلالية مستمدة من اللغة والجغرافيا والأسطورة، فضلا عن الوعي السياسي والثقافي، ثم رصد بعض اللقاءات التاريخية التي تلاقح فيها الشرق مع الغرب، واتسمت بأنها لقاءات فكر ونضال معا، وكان لقاء الشعر إطلالة عجلى على بدايات الاستبصار بالآخر الغربي، والتعرف على ملامحه، بطريقة الشعر الخاصة في التعرف والاستبصار.

وتوقف الفصل الأول عند ثنائية الشرق والغرب، وهي الثنائية الشعرية الكبرى التي نبتت في قصائد الشعراء على أرض فكرية عريضة، فجاءت انعكاسا مكثفا للتيارات والتصورات السائدة آنذاك. لكن الشعر استقطر اللحظة التاريخية بكل ملابساتها ومداخلاتها، ونفى الفضول عنها، مما لا تتحمله طبيعة الشعر وأقانيمه الفنية، وذلك من خلال ثلاثة محاور هي: حدود الغرب والشرق- الاغتراب والحنين- الغرب الحاضر والشرق الغائب.

وأبان الفصل الثاني عن «البعد السياسي» لصورة الغرب، وهو البعد الذي استمد تفاصيله المريرة من كون الغرب المحتل الأكبر لخريطة المعمورة في العصر الحديث، وكانت آلته الحربية الرهيبة المكون الأساسي لخطوطه وظلاله. وقد واكب الشاعر العربي الأحداث، واتخذ موقفا سياســيا مر على منطقة الانفعال وغابة الشعور لديه، وخرج في النهاية متفقا مع طبيعة الفن وشروطه، واعتمد في هذا على محورين هما: الاحتلال والاستبداد ـ الغرب والحرب، وفيهما ظهر مدى سخط الشاعر على «المهلكات» التي تفنن في صنعها الغرب، ثم توارى خلفها ليملأ العالم بصيحات التهديد والوعيد، كما ظهر احتفاء الشاعر بدعوات التحرر والسلام.

وتظهر الحرب تناقضاً ضخماً تحياه الحضارة الغربية، فالإنسان الذي نفد إلى قلب الذرة، وتمكن من إطلاق الطاقة الكامنة بين جسيماتها، وسخر الأثير وتحكم بالكهرباء وصنع الطائرات، هو الإنسان الذي يسخر العلم من أجل الدمار ويعرض مفاخر البشرية للخراب، إنه – باختصار وفي تقدير الشاعر محمد عبدالغني حسن- عالم مجنون، يتحكم فيه عقل صحيح وقلب مريض، وتفتك به التناقضات:

أرى العالمَ المجنونَ تُبْرمُ أمَره

إذا العلمُ أسدى من عَوارِفه يداً

لقد سوَّد الناسُ السماءَ وقائع

ينامون إلا عن تراتٍ دفينةٍ

تَغَنَّوا بألحان السلامِ جميلةً

عجبتُ لهم قد حرَّموا القتلَ مُفْرداً

عقولٌ صحيحاتٌ وأفئدةٌ مرضى

تَبدَّلها هدماً وأَتْبعها نَقْضا

كما زَلزلوا بالخيل والغارة الأرضا

تُؤجِّجُ نيرانَ العداوةِ والبغضا

ولم يُمْهلونا نَجْتني زهرَها الغضَّا

ويقتلُ في الهيجاءِ بعضهُمو بعضا

ويجيء الفصل الثالث ليكشف عن «البعد الجمالي» الذي تشكل عبر التجربة الشخصية والمشاهدة والعيان، فوقف الشعراء على مشاهد من الطبيعة الأوروبية، وشغلتهم المدينة الغربية حتى أضحت موضوعها بارزا في ديوان الشعر الحديث، وبالإجمال اهتموا بكل ما اشتملت عليه أرض الغرب وسماؤه وما استحدثه إنسانها من بدائع وصنائع.

وتناول الفصل الرابع «البعد الإنساني»، والعطاء فيه متبادل بين المصور والصورة، أو الشاعر والموضوع، ويتم التركيز فيه على النزعة الإنسانية التي تملكت الشعراء واتسعت بها تجاربهم وأدواتهم التعبيرية، وذلك من خلال تحليل المواقف الإنسانية والأحداث العالمية التي اهتز لها وجدان الشاعر، وتقدير الإبداع والعظمة في شخصيات صارت جزءا من إرث الإنسانية الحضاري، كما تلمّس البحث ملامح الغرب في علاقة الشاعر العربي بالمرأة الغربية.

واختص الفصل الخامس بـ «البعد الفني» في قصيدة الغرب، حيث يجيب عن سؤال البحث: كيف صُوِّرت الصورة ؟ الوسائل التي أنتجتها والسمات التي برزت دون غيرها، وكانت الغاية التي تغياها هي رصد الظواهر الفنية التي لها واشجة قوية بصورة الغرب، واتخذ التشخيص الفني أربعة مسارات:

أولها: المعجم الشعري، ومن أبرز مكوناته: الألفاظ التراثية، والألفاظ الغربية، والتعابير المسكوكة، والتعابير القرآنية.

وثانيها: أساليب الخطاب الشعري من خلال: التضاد أداةً للكشف، والتعبير بالاستفهام، والحوار أداةً للاتصال، والتوسل بالتكرار.

وثالثها: البناء التصويري، وتمثل في: التصوير بالحقيقة، والتشخيص،والتجسيد، والتجريد، والقص الشعري.

ورابعها: استدعاء الشخصيات التراثية من التراث الديني، والتراث الأدبي، والتراث الأسطوري، والتاريخ.

إن إدراك الآخر جزء من إدراك الذات، إدراكه كما هو وليس كما نريد، وإنّ تصوُّره وفهمه يطرح الآليات الصحيحة للتعامل معه، والتوجه إليه من مبدأ التعارف الإنساني المتبادل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)... (الحجرات: 13)، عند ذاك تتقدم المحبة على الكراهية، والانفتاح على الانغلاق، والتكامل على التنافر، والتحالف على الصدام.