وهمْ الحل الصفريّ

1 يناير 1970 05:18 م
السياسة في أشهر تعريفاتها هي فن الممكن، أقصى الممكن، والقوى السياسية في بر مصر منذ زوال حكم مبارك (وبقاء نظام مبارك نفسه) وهي تحاول المستحيل عبر التغلّب بالجماهير التي خرجت من عقود قهر تبحث عن نصيبها في السبعين مليار دولار (ثروة مبارك وأبنائه المهربة إلى الخارج) وانشغل غالبية أفراد الشعب بآلته الحاسبة وهو يبحث عن نصيب الفرد في تلك الثروات.

وبعض الشعب ترك الآلة الحاسبة لينشغل بالآلة الدستورية في إعلان دستوري جعله البعض فارقاً بين الجنة والنار، وحاول البعض اعتباره توقيعاً على بياض يخول له بمقتضاه التحكم في تلك الثروة من الأصوات، وبعضهم حوّل الآلة الإعلامية لإلهاء الشعب بقضايا وموضوعات عجيبة.

كانت المعركة بمختلف آلاتها صفرية، كل تيار يعتبر أن فرصته التاريخية التي ينتظرها منذ عقود حانت، لينفرد بمركز القوة ويستبعد غيره من التيارات.

الجميع إلا من رحم ربي (وقليل ما هم) حاول المستحيل إما تضبيط المستقبل على مقاسه ومقاس تياره، وإما بالتحكم في مجرى نهر التغيير ليصب في مصبه هو، وإما اللعب بكل الأوراق وعلى مختلف الصعد لصنع مستقبل لا يوجد فيه سواه.

كانت أزمة مصر بعد خروجها أو بالأحرى محاولة خروجها من نفق الاستبداد والفساد المظلمين اللذين عاشت فيهما طوال عقود طويلة هي: كيف تصنع مستقبلاً أكثر أمناً وأكثر عدلاً وأكثر إنسانية؟، مستقبلاً يجد فيه كل مواطن مصري تعليما محترما لأبنائه، وخدمة طبية إنسانية تليق بنا كبشر، ومكانا آدميا يصلح للعيش فيه.

كانت أحلام المصريين بسيطة مثل تصوراتهم عن العدل الاجتماعي، لا نضطر لدفع رشوة حتى تمشي مصالحنا.

ولا للبحث عن واسطة حتى نستطيع أن نأخذ حقنا من أي جهة: حكومية كانت أو خاصة.

كانت السياسة حاضرة وبقوة في كل حوار مجتمعي، وأفصح كثير من الناس عن انتماءاتهم السياسية والفكرية وظن الناس أن زمن الخوف قد ولّى، وأن زمن بطش السلطة خصوصا الشرطة قد انتهى، باختصار ظن الناس أن زمن سطوة جهاز أمن الدولة قد ذهب بغير رجعة.

كانت فرصة تاريخية أن نخرج كدولة وكمجتمع من أسر الدولة الباطشة بأجهزتها ومؤسساتها لكن للأسف ككل شيء جميل لم يكتمل حلم المصريين.

انتهزت الجماعات السياسية والتنظيمات الأيديولوجية الفرصة وحاولت تجيير مجرى نهر التغيير ليجعل منها مستبدين جددًا، وما كان أحد يدري ولا حتى هم أنفسهم يدرون أن هناك آلة جبارة لها تربيطات دولية وإقليمية تلعب لصالح الاستبداد والفساد هي التي تصيغ الخيارات المجتمعية، وهي التي تلعب بالقوى السياسية، ولن تسمح للتغيير أن يأخذ مساره، ولا أن ينتج ثماره المرجوة.

وغلبت المعركة الصفرية والمنطق الصفري على كل القوى السياسية، وساد منطق الاستئثار بكل شيء، واتبع الجميع (ولا أستثني منهم أحدًا) منطق المغالبة لا المشاركة، وسادت نظرية: إما كل شيء أو لا شيء.

كان الجميع يفكر بالمنطق نفسه، ويضغط في كل اتجاه حتى يحقق ليس أقصى ما يريد، بل كل ما يريد.

وكانت فترة الرئيس محمد مرسي فترة نموذجية ليسود المنطق الصفري، فكان الإعلان الدستوري المشؤوم الذي كتل كل القوى ضده، وجعل كثيرا من حلفائه ينفضون من حوله بعد نكوث غير معهود عن كل العهود.

وفي يوم 3 يوليو كانت قمة تبلور «المنطق الصفري» باستبعاد تام لتيار لا يمكن إلغاؤه من الحياة السياسية المصرية، حتى لو اجتمع عليه المشرق والمغرب، فالحركات الاجتماعية الممتدة لا يمكن محوها بجرة قلم، ولا بقرارات عشوائية فوقية، ولا بتشغيل الآلة الإعلامية لشيطنتها.

هذه الحقائق الاجتماعية والتاريخية هي خلاصة دراسات ومشاريع بحثية، واسألوا كل التجارب حولنا (والعاقل من اتعظ بغيره)، أما من أراد أن يعيش وهم الإنكار فهو وما أراد.

ومنذ تلك اللحظة الفارقة ويعيش المجتمع المصري بنظامه السياسي وحركته المعارضة الأساسية على الأرض وهم المعركة الصفرية:

إما العودة لما قبل 3 يوليو بكل اختلاطه وعشوائيته بل وهزليته.

وإما الحاضر بكل جبروته وظلمه وطغيانه، وأحكام جائرة بالإعدام للمئات، وإعلامه الجوبلزي.

وتحت ضغط المنطق الصفري تضيع كل الحلول الوسط، وتتلاشى أنصاف الحلول، وتنزاح السياسة ليحل محلها الحل الأمني، والبطش الأمني، والقهر الأمني، لتتعقد المشكلة أكثر وتخلق من الثارات أكثر مما تقدم من الحلول.

هكذا هي النواتج الطبيعية للاستخدام المفرط في الحل الأمني. لأنه ليس حلاً حقيقياً بل وهم حل، قد ينجح في ضبط ظاهر المجتمع أما باطنه فيغلي بالإحباطات التي تتكثف حتى يحدث الانفجار الرهيب (وما ثورة 25 يناير عنا ببعيد).

السياسة هي فن الممكن، وطلب المستحيل ليس من السياسة في شيء.

[email protected]