الزمن في الشعر الشعبي الحديث (1 من 4)

1 يناير 1970 05:55 ص
‏??يحاول صالح الشادي تجاوز الذاتية المباشرة في تعامله مع الزمن، إنه في هذا التوظيف لزاوية الزمن في نصوصه، ولاسيما في هذا المقطع البسيط الذي أمامنا، يسعى إلى استحضار التاريخ، وذلك أنه يحمل همّاً أكبر من هموم بعض الشعراء الشعبيين، كما سيمر معنا، حيث يقول:

من زمان عدّت من هنا.. مراكب الإفرنج

وعد من هنا ركب المثنى

وعدوا بيض

عدوا زنج

في هذا المقطع يتحول هذا الكلام إلى مشهد تاريخي عام، رصد الشاعر من خلاله الأحداث الزمنية المتعاقبة التي مرت على هذه الأمة، وهنا يظل الزمن عند الشادي حالة تاريخية ممتدة لرصد الأحداث والمواقف. غير أن هذه الحالة تنحسر عند بدر صفوق، لكنه انحسار فيه تخصيص لا تعميم كما عند الشادي، فبالقدر الذي كان ينظر فيه صالح الشادي إلى الزمن كحالة إنسانية ممتدة، كان بدر صفوق يتعامل مع هذه الزاوية من حيث كونها قيمة شعبية تختص بتاريخ الإنسان البدوي في الصحراء العربية بعيداً عن أي تداعيات خارجية.

وهمهمة نسوة تلفعهن سواد بجنب عشة

لا حوار.. كان صوت لاحتكاك بساط سدو

في مقشة في كفوف أم تغني لأصغر الأطفال

عن وقت المغازي ويشمئز الطفل

من وقت المغازي

في هذا المقطع حاول الشاعر رسم إشكالية الإنسان البدوي أو الإنسان المنتمي لقبائل بدوية، والحديث عن الحياة كحالة جدلية بالمقام الأول، بصرف النظر عن حال النسوة الجالسات بجوار«العشة»– وهي بناء مصنوع من الخشب - وما تقوم به هؤلاء النسوة من عمل للبساط، يعكس الشاعر هنا موقف الصراع بين الأجيال من مسألة الحروب الأهلية التي كانت مشتعلة بين القبائل العربية في الصحراء قبل ظهور الحكومات الوطنية في المنطقة، هذه الحروب الأهلية التي سماها الشاعر بـ«وقت المغازي»، أي زمن الحروب التي تحدث بين بعض قبائل البادية قبل قيام الحكومات الوطنية الحديثة

فالأم التي تمثل الجيل الأول تغني لأصغر الأطفال عن«وقت المغازي»الذي ولى زمانه، وهو غناء ينم عن فرح، لأن الطفل وهو الممثل للجيل التالي يعكس لنا موقفاً مغايراً عن موقف أمه، حيث يقول الشاعر مفسراً هذا الموقف الرافض من قبل الطفل«ويشمئز الطفل من وقت المغازي» وحينما نمعن في تأمل هذا الكلام ندرك أن ارتباط الشاعر بالطفولة أشد من تعلق المجتمع من خلال النسوة والأم بوقت المغازي، لأن الطفولة تمثل له البراءة والفوضى العبثية النقية، وكأن الزمن ينحسر لديه بشكل فيه من الخصوصية الشيء الكثير، وذلك حينما يحاول التخلص من«وقت المغازي»معتمداً على مسألة اشمئزاز الطفل من هذه الحالة:

ضجة الأطفال عن هم المدارس والعصابة

طفل يسأل صاحبه فحوى الحكاية

الجرة العطشى وتغريد الغراب

يلتفت له يتركه

يردد الطفل الحكاية من البداية

لين ينسى

..........

يا غبي أبوك آدم ما تمتع بالطفولة

حينما يطل الشاعر من خلال نافذة الزمن لا يرى إلا الطفولة بكل تحديها وكل رفضها للفوضى كما في المقطع السابق، ويرى الطفولة كذلك تتجلى بالشقاوة والعبث الطفولي البريء«يا غبي أبوك آدم ما تمتع بالطفولة»أو من خلال الحكايات الصغيرة والمشكلات التي تنشأ بين الأطفال في المدارس«هم المدارس والعصابة» وعلى هذا الأساس تكون الرؤية لديه ذاتية ودقيقة، ذاتية باعتبار أن الطفل في كلا المقطعين قناع لذات الشاعر، وكأن الشاعر يعبر من خلال هذا القناع عن مواقفه الفكرية الرافضة للمغازي وعن مواقفه الإنسانية التأملية المتعلقة ببراءة الطفولة، ودقيقة لأنه حاول تأمل حالة أبي البشرية آدم – عليه السلام – الذي لم يتمتع بالطفولة على حد تعبير الشاعر، وهذا الكلام فيه اختراق للعادة المألوفة ومحاولة تأمل شيء غير موجود في الأساس.

تكاد أن تكون هذه الرؤية للزمن أشد تفلسفاً وأكثر عمقاً لدى عمري الرجل من صالح وبدر، حيث إن الزمن يرتد إلى الداخل وينحبس في مشاعر الإنسان، وهو هنا عكس بدر صفوق وصالح الشادي، حيث إن كلا الشاعرين رسم لنا صورة الزمن من الخارج، بينما عمرا الرجلين عكس لنا الصورة من الداخل، لهذا كانت الرؤية لديه أكثر تعمقاً، وأنا هنا لا أريد أن أعقد مقارنة بين الشعراء أو أحاكم هذا الشاعر أو أجيز ذاك، بقدر ما أحرص على رسم الصورة وكشف مدى عمق هذه الزاوية عند هذا الشاعر أو ذاك للوصول إلى الحقيقة الشعرية متجاوزاً في هذا الشأن المواضيع التسطيحية في الوقوف على الحقائق العلمية التي لا تعكس عمق الشاعرية بقدر ما تؤكد مصداقية هذه المعلومة من عدمها.