الوقف الخيري في الإسلام

1 يناير 1970 09:57 ص
إن للوقف الإسلامي فوائد جليلة، وآثاراً عظيمة على مستوى الأفراد والشعوب. إن الواقف إذا مات لم ينقطع عمله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) رواه الترمذي. وقد شرع الله الوقف وندب إليه، وجعله قربة من القرب التي يتقرب بها إلى الله، ولم يكن أهل الجاهلية يعرفون الوقف، وإنما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليه، ورغب فيه.. وفي الحديث السابق: أن عمل الميت ينقطع إلا من هذه الثلاثة الأشياء؛ لأنها من كسبه: فولده، وما يتركه من علم، وكذا الصدقة الجارية، كلها من سعيه، علماً نشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته).

وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف أصحابه المساجد والأرض والآبار والحدائق والنخيل، ولا يزال الناس يقفون من أموالهم إلى يومنا هذا.

وهاكم بعض الأمثلة للأوقاف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأمر ببناء المسجد قال: (يا بني النجار: ثامنوني بحائطكم هذا؟ فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى) رواه البخاري ومسلم. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة. قال: فحفرتها. رواه البخاري، وفي رواية البغوي: أنها كانت لرجلٍ من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان: فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين.

لقد أوقف عثمان رضي الله عنه ذلك البئر فاستحق جنة عرضها السماوات والأرض، جزاء ذلك الوقف. وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه بلغ به بر أمه أنه أراد أن يوقف وقفاً لأمه ينال به الأجر عند الله، فقال: يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل – أي أكثر ثواباً-؟ قال: الماء. فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد2.

تأملوا قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران92), لقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذه الآية فهماً عميقاً، وبذلوا مالهم؛ بل كان بعضهم ينظر في ماله، فيختار أفضل ماله، وأحبه إليه فيتصدق به حتى ينال الأجر والبر.

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال:(إن شئت حبست أصلا، وتصدقت بها)، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث، وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه)أخرجه البخاري ومسلم.

وذكر الطرابلسي فقال: حبست عائشة رضي الله عنها، وأختها أسماء وأم سلمة وأم حبيبة وصفية، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبس سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد بن الزبير، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

وأجمع الصحابة رضي الله عنهم، على مشروعية الوقف، واشتهر اتفاقهم رضوان الله تعالى عنهم على الوقف قولاً وفعلاً. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (لم يكن أحد من الصحابة له مقدرة إلا وقف) قال ابن قدامة: وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك، ولم ينكره أحد، فكان إجماعاً. وقال الشافعي رحمه الله: بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا). وقال: أيضاً: أكثر دور مكة وقف.

تعريف الوقف:

الوقف يطلق في اللغة على الحبس، كما أنه يطلق على المنع.

وأما في اصطلاح الفقهاء: فقد عرف الوقف بتعاريف كثيرة، وأقرب تلك التعاريف لمعنى الوقف ما ذكره ابن قدامة في المقنع بأنه: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، لكونه مقتبساً من قول أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً صلى الله عليه وسلم، حينما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أرض أصابها بخيبر. فقال له:(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها).3

أركان الوقف وأنواعه:

وللوقف أركان أربعة ذكرها أهل العلم في مقدمة ذكرهم أحكام الوقف الإسلامي وهي:

الركن الأول هو: الواقف، وهو المحسن أو المتبرع الذي يوقف ما قدره الله عليه وهو الحابس للعين.

الركن الثاني: هو الموقوف: أي الشيء الذي حبسه أو أوقفه من مال أو عقار أو ما أشبه ذلك. الركن الثالث: هو الموقوف عليه: وهي الجهة المنتفعة بالعين المحبوسة كمسجد أو دار علم، أو بيت لابن السبيل، أو للجهاد في سبيل الله، أو لحفر بئر، أو لإجراء نهر، أو لشق طريق، أو ما أشبه ذلك. وكذلك قد يكون الوقف لمراكز العلم الشرعي ومدارس التحفيظ. حتى يدوم استمرارها وعطاؤها.

الركن الرابع: هو الصيغة، ويقصد بها لفظ الوقف، وما في معناه. وهناك ألفاظ صريحة وألفاظ كناية. فأما الألفاظ الصريحة فهي كقولك: وقفت، حبست، سبَّلت، وأما ألفاظ الكناية فهي كقولك: صدقة محرمة، أو صدقة محبسة، أو صدقة مؤبدة. هذه هي أركان الوقف الأربعة: الواقف، والموقوف عليه، والوقف، وصيغة الوقف.

وأما أنواعه فهي نوعان: أولاً: الوقف الأهلي. ثانياً: الوقف الخيري.

من حِكَم الوقف:

* أنه مصدر تمويل دائم يحقق مصالح خاصة ومنافع عامة. يمكن وصف الوقف أنه وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة، ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال المسلمين، وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يجب أن يكون من جهة حلال.

* أنه أوسع أبواب الترابط الاجتماعي بما ينسجه داخل المجتمع الإسلامي من خيوط محكمة في التشابك، وعلاقات قوية الترابط يغذي بعضها بعضاً، تبعث الروح في خلايا المجتمع حتى يصير كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

* استمرارية الأجر والثواب وتكفير الذنوب لأنه أجر لا ينقطع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم

* استمرار الانتفاع به في أوجه الخير، وعدم انقطاع ذلك بانتقال الملكية.

* البقاء والمحافظة على المال الذي هو عصب الحياة..

* وغيرها من المصالح الانسانية....

إن نشر الدين وتبليغه إلى أنحاء الأرض كافة، ليس بالأمر الهين والسهل، بل يحتاج إلى جهود عظيمة، وقدرات هائلة، حتى ينشر، فالجهاد في سبيل الله، والغزو انشر كلمة التوحيد -لا إله إلا الله- يحتاج إلى أموال ضخمة، ووسائل عظيمة، كوسائل النقل، وشراء الأسلحة، والمعدات الحربية، وخدمة المجاهدين.

وإن تعليم الناس العلم الشرعي، والقرآن الكريم، والسنة المطهرة يحتاج كذلك إلى مراكز وأماكن متخصصة، ويحتاج إلى تفريغ مدرسين يعلمون الناس العلم، وكذا توفير الخدمات في هذه المراكز من السكن لطلاب العلم والكتب والغذاء وما أشبه ذلك، فكل هذا يحتاج إلى رافد خير وأموال ضخمة حتى يتم. ومن حكم الوقف أيضاً؛ أنه يوجد مصادر دخل للفقراء والمساكين والعاجزين عن العمل والأرامل والأيتام وغيرهم تغطّي حاجاتهم.

فما أحوج المجتمعات الإسلامية في هذا العصر إلى وجود مؤسسات وقفية، تعنى بكثير من شؤون حياتهم وذلك أن متطلبات الحياة قد تتوافر في مكان، بينما نجد أماكن أخرى يعيش أهلها في شظف من العيش.