مكانة الـعلم في الإسـلام

1 يناير 1970 03:22 م
إنّ الحضارة الإسلاميّة التي بلغت ذروة المجد في العصر العباسي، لم تنشأ من فراغ ولم تشيّد من عبث، بل كان وراء ذلك كلّه عدّة أسباب، أهمها على الإطلاق نشاط الحركة العلمية والتعليمية وانتشـارها في العالم الإسـلامي آنذاك نتيجة لما أولاه الإسلام من عناية بالعلم لا تجد لها نظيراً، حتى بلغ مبلغاً عظيماً. ولذا، فليس بغريب أنّ يقترن تحضر الأمة الإسلاميّة ورقيّها وازدهارها بالعلم، وما تركته من تراث خير شاهد على مدى مبلغها من العلم وما نتج عنه من تحضر ورقي. وبناء على ذلك، فمن الطبيعي أنّ يقترن تخلفها وتراجعها الحضاري بإهمال العلم والتعليم وعدم إعطائه الأولوية من أجل الخروج من هذا المأزق الحضاري.

ونظراً لما للعلم من مكانة عظيمة في إصلاح الشعوب وترقيتها، فإنّ الإسلام حثّ المسلمين على الزيادة من العلم وتنميته، كلاّ على قدر استطاعته، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ أمر بأنْ يدعو الله أنْ يزيده من العلم في قوله تعالى: (( ... وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْماً)) (طه:114). وهذه التنمية العلمية التي دعا لها الإسلام لا تتوقف عند حدٍّ لا تجاوزه، ولا يستطيع أحد أنْ يدعي أنّ تنميته العلمية قد بلغت حدًّا لا مزيد عليه، ومن ادعى ذلك فهو جاهل بطبيعة العلم كما قال الله تعالى: ((وَفَوْقَ كُلّ ذي عِلْمٍ عَلِيمٌ )) (يوسف:76)، ومعنى ذلك أنّ طلب العلم وتنميته تستغرق حياة المتعلم كلّها، لاعتقاده أنه مهما بلغ من العلم فهناك من هو أعلم منه، وليس هناك تعبير يـحُثّ المسلمين على التنمية العلمية أبلغ من الآية السّابقة، والتي قبلها، أعني بذلك قوله تعالى: (( ... وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْماً )) (طه:114).

يضاف إلى ذلك، أنّ العلم مقياس يعتمد لاختيار الأصلح فالأصلح في مختلف المجالات، وذلك بناء على اصطفاء الله رضي الله عنهم طالوت ملكاً على قومه نظراً لما له من بسطة في العلم والجسم، رغم أنّ مقياس القوم كان مادياً إذ كانوا يرجون أنْ يتملكهم رجل ذو سعة من المال، ولكن قدمت الزيادة في العلم على الزيادة في المال، كما بيّن الله رضي الله عنهم ذلك في قوله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ?للَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى? يَكُونُ لَهُ ?لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِ?لْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ ?لْمَالِ قَالَ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَـ?هُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ?لْعِلْمِ وَ?لْجِسْمِ وَ?للَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:247). فذكر قصة طالوت مع قومه عبرة لنا، وهو مغزى القصص القرآني كلّه كما في قولـه تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ)) (يوسف:111). والعبرة من هذه القصة أنّ الزيادة في العلم تعد خير مقياس لاختيار الناس وتحميلهم المسؤوليات، وفي ذلك دلالة على مكانة العلم وأهميته في التعاليم الإسلاميّة. ثم إنّ أحاديث الـرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في شـأن العلم إنما هي تأكيد لما جاء في القـرآن الكريـم وتعضيد لعظمة مكانة العلم في الإسلام. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، فنص الحديث يدّل على أنّ طلب العلم فرض على كلّ مسلم، وهذا الفرض منه ما يطالب به كلّ مسلم على حدة فيكون فرض عين، مثل العلم بكيفية الصـلاة وكيفية أدائها على الوجـه الشـرعي. ومن العلم ما يكون طلبه من المسلمين عامة غير معيّن الأفراد، فيكن في هذه الحال فرض كفاية.

أهمية التعليم في الإسلام



إذا كان للعلم مكانة عليّة في تعاليم الإسلام، فلابد أنْ يكون للتعليم أيضاً الأهمية والمكانة نفسها، إذ لا يمكن الفصل بين العلم والتعليم؛ فالعلم لا يُكتسب إلا بالتعلم والتعليم، والتعليم ينعدم إذا لم يكن هناك علم، إذ العلم ما يكتسبه الفرد عن طريق التعلم، والتعليم نقل ما اكتسبه من العلم للآخرين. ولعلّ أفضل ما يوضح لنا مكانة التعليم أنه غاية الإسلام، فلا استمرار للإسلام وتعاليمه إلا بالتعليم والتعلم جيلاً عن جيل، فضلاً عن أنّ بيان مواضعه عند المسلمين خير شاهد على مكانة التعليم في الإسلام.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الله ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعله رحمة للعالمين ومنة منّ بها سبحانه على المؤمنين، وتتمثل هذه المنة في التزكية وتعليم الكتاب والحكمة، كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ)) (آل عمران:164)، فضلاً عن تعليمهم ما لا يعلمون كما ورد في قوله تعالى: ((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:151). وفي موضع ثالث ذكر الله منة التعليم على العرب وذلك بإرسال الرسول إليهم مقابل ما كانوا عليه من أمية، كما في قوله تعالى: ((هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ)) (الجمعة:2). ففي هذه الآية الكريمة ذم للأمية ومدح للعلم والتعليم؛ حيث ذكر حالهم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الأمية، ثم كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا الوصف المذموم بتعليمهم الكتاب والحكمة، ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أول الآيات نزولاً تأمر بالتعلم، وذلك عن طريق الأمر بتعلم القراءة والكتابة، فهي إذاً تتضمن معنى ذم الأمية ومدح التعلم، وأنّ هذه الصفة المذمومة لا تزول إلا بالتعلم.

ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة القرآنية ببيان الغاية من بعثته بقولـه: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا »، فحصر الرسول صلى الله عليه وسلم بعثته في التعليم ووصفها بالتيسير، وذلك خلقه في أموره كلّها. ولذا، فإنّ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم استنفدها كلّها في تعليم المؤمنين أمور دينهم، فلا تمر عليه ساعة من ليل أو نهار إلا ويغتنمها في تعليم أصحابه أي أمر من أمور دينهم وما فيه صلاح لهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كانت عملية التعليم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم متصفة بالديمومة والاستمرارية، وهذا الأمر وحده كاف للدلالة على أنّ التعليم غاية الرسالة الخاتمة، ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ استمرار عملية التعليم في الأمة الإسلاميّة إنما هي استمرارية للإسلام نفسه، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث أصحابه لمن لم يحضره من المسلمين لتعليمهم أمور دينهم، وكان يوصي رؤساء القبائل والوفود بأنْ يعلِّموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم، كما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ».