مشاهد / الكتاب الأول

1 يناير 1970 05:07 م
كان كتاب جمال الغيطاني الأول مجموعته القصصية: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام».

وكان كتابي الأول رواية عنوانها: الحِداد. ولصدور المجموعة والرواية قصة لا بد أن تروى. لأنها تقول الكثير عن طبيعة الواقع الثقافي المصري في ستينات القرن الماضي. بما له وبما عليه.

وأنا أقول إنه- ذلك الزمان- كان له الكثير في أعناقنا. ولم يكن عليه شيء لنا على الإطلاق. رغم كل ما قيل بعد رحيل عبد الناصر. ورغم الحملات الكثيرة التي شُنَّت ضد الرجل وضد تجربته وثورته.

كنت قد تعرفت على جمال الغيطاني في رحاب نجيب محفوظ وفي ندوته الأسبوعية في مقهى ريش.

وفي ذلك الوقت تعرفت في أثناء وجودي في هيئة الكتاب- كان اسمها وقتها دار الكتاب العربي- على سمير أحمد ندا. وهو روائي شاب وإنسان جسور ومغامر وقادر على فعل ما لا نستطيع أن نفعله.

كان سمير ندا قد أسس مشروعا للنشر أسماه: كتاب الطليعة. وسبب لجوئه إلى هذه الطريقة هوأن النشر كان صعبا إن لم يكن مستحيلاً. لم تكن دور النشر الخاصة الكثيرة التي أكثر من الهم على القلب الآن قد أنشئت وخرجت إلى الدنيا. كانت في مصر دار المعارف التي لا تنشر إلا للأسماء الراسخة الكبيرة. وتهتم بشكل خاص بالتراث العربي والإسلامي. ثم دار الكاتب العربي. وكانت المؤسسات الصحافية تنشر بعض الكتب في أضيق الحدود.

وعندما نعود لما كان ينشر في أيامها سنكتشف أن أقل القليل منه كان من الأعمال الأدبية وللأسماء الجديدة.

لا يجب أن ننسى دار مصر للطباعة. التي أسسها عبد الحميد جودة السحار. وشقيقه سعيد جودة السحار. وانطلقت من رحم مشروع كان عنوان: دار النشر للجامعيين. كانت تنشر لخريجي الجامعات من الشباب أعمالا أدبية. وهذا المشروع خرج إلى الوجود في أربعينات القرن الماضي. واستمر ينشر للشباب الذين تخرجوا من الجامعة. وكانت فكرة التخرج من الجامعة لها «شنة ورنَّة» في ذلك الوقت.

وعندما وصلنا إلى منتصف ستينات القرن الماضي كانت دار مصر للطباعة تنشر لعدد من الأسماء الراسخة المعروفة: نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، عبد الحميد جودة السحار، علي أحمد باكثير، محمد عبد الحليم عبد الله، عادل كامل، ويوسف جوهر. وللحقيقة أقول إنه كانت في مصر في ذلك الوقت دار الخانجي للطبع والنشر. وأقل ما كانت تنشره كان الأعمال الأدبية. وكانت تركز نشرها على الروايات التي يكتبها يوسف السباعي وثروت أباظة.

كان طريق النشر مسدودا أمام الشباب. ولا توجد دار مستعدة أن تنشر للشباب سوى دار الكتاب العربي. هيئة الكتاب فيما بعد. وكان طابور الانتظار أمامها طويلاً جداً. يمكن أن ينتظر الشاب سنوات حتى يرى عمله النور. وهكذا فكَّر سمير ندا في إنشاء مشروع للنشر. وكان سمير ندا قد كتب بعض رواياته ونشرها على حسابه الخاص.

وعندما فاتحني سمير ندا في إنشاء مشروع خاص للنشر، تحمست بلا حدود. واعتبرته مغامرا يحلم وأن حلمه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود في يوم من الأيام. لأن النشر كان عملية صعبة وعسيرة. لا يمكن الإقدام عليها بسهولة. ثم إنها تتطلب أموالا. وكنا في ذلك الوقت من أفقر الفقراء. كانت مكافأتي من القوات المسلحة أربعة جنيهات ونصف الجنيه في الشهر. وهذا مجرد مثال.

ولا تنظر لهذا الرقم على أنه مبلغ صغير. فقد كان مبلغا يمكن للإنسان أن ينفقه في أغراض كثيرة لرخص الأسعار ولارتفاع قيمة الجنيه المصري. التي لم يبق منها أي شيء الآن.

بعد أن أسس سمير ندا مشروعه. بحث عن اسم نقدي كبير يصبح رئيسا للتحرير. عندما نصل إلى عملية التنفيذ.

وقد اتفق مع إبراهيم فتحي- وكان خارجا لتوه من السجن- أن يكون رئيسا للتحرير لكتاب الطليعة. وكان هذا عنوان السلسلة الذي اختاره سمير ندا. ووافق إبراهيم فتحي على رئاسة التحرير، بل ورحَّب بها.

في ذلك الوقت كنت قد انتهيت من كتابة روايتي: الحداد. كان عنوانها الأول: الحداد يمتد عاما آخر. ولكن عند الطباعة اعترضت الرقابة على حكاية أن الحداد سيمتد عاما آخر. وحذفت باقي الجملة امتثالا للرقابة حتي أتمكن من نشر العمل. فأصبح الحداد فقط. ولأنها نشرت غير مشكولة. فكثير من الناس كان يقرأونها: الحدَّاد. أي مهنة الحدادة. وليس الحداد بمعني الحزن.

ذهبنا بالرواية إلى مطبعة في شارع الترعة البولاقية كان اسمها: مطبعة الجبلاوي. وكان سمير ندا قد أخذ مني مع نص روايتي مبلغ 35 جنيها مساهمتي في مشروع النشر.

وهو مبلغ كبير جدا بحسابات ذلك الزمان. على أن يكمل هو الباقي من أجل طباعة الرواية. ثم نطبع الكتب التالية من العائد من توزيع الرواية.

ذهبنا إلى صاحب المطبعة وقام بعمل مقايسة أمامنا. وعاد ليقول لنا إن المبلغ لا يكفي. وأنه لا بد من إحضار عمل أصغر من الرواية بملزمة. حتى يكفي مبلغي ومبلغ سمير ندا في الطباعة. قال لي سمير ندا: احضر عملا من أحد الشباب الذين تقابلهم في ندوات نجيب محفوظ. على أن يدفع لنا نفس المبلغ الذي دفعه كل منا وهو 35 جنيهاً. واشترط أن يكون العمل مجموعة من القصص القصيرة حتى يمكن التحكم في حجمها باستبعاد بعض القصص إن واجهنا مشكلة في الحجم.

كان جمال الغيطاني أقرب من يحضرون إليَّ. كنا نجلس بجوار بعضنا البعض. كنت مجنداً بالقوات المسلحة.

وكان هو يعمل بجمعية تحمي الحرف اليدوية التراثية في خان الخليلي وسيدنا الحسين.

سألته: هل لديك مجموعة قصصية جديدة تريد نشرها؟ كان السؤال غريبا وغير متوقع. لم يصدقني جمال. حدَّق في وجهي مستغربا أن تكون هناك فرصة للنشر. ربما شك في صحة قواي العقلية. لصعوبة إن لم يكن استحالة النشر في ذلك الوقت.

قال لي إن لديه أكثر من مجموعة قصصية في البيت. فهو يكتب وينشر في إحدى المجلات التي تصدر في بيروت. ويضع ما ينشر في انتظار أن يصدر على شكل روايات.

طلبت منه أن يحضر لي في الأسبوع المقبل ما يرى أنه مجموعة أدبية تصلح للبدء بها. قال لي: ولماذا ننتظر حتى الأسبوع المقبل؟ تعال معي إلى البيت الآن وسأعطيك المجموعة.

ذهبت معه بالمواصلات العامة من ريش بالقرب من ميدان طلعت حرب. حتى منزله في درب الطبلاوي بسيدنا الحسين بالقرب من شوارع بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. وأعطاني مجموعة قصصية عنوانها: أيام الرعب.

عدت إلى وحدتي وكانت مستشفى عسكريا في غمرة. ولم أنم إلا بعد أن كنت قرأت المجموعة كلها. وكان رأيي المبدئي أنه يجب تغيير عنوانها من: أيام الرعب إلى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام. وكان عنوان إحدى قصص المجموعة. بل ربما كانت أهم قصص المجموعة. ثم إن العنوان الذي اقترحته فيه رؤية أشمل من أيام الرعب. وقد وافقني جمال على اقتراحي. وأصبح اسم عمله الأول: أوراق شاب عاش منذ ألف عام.