لم تتوقف إطلالته الأسبوعية على قراء «الراي» لسنوات طويلة
تأبين / جمال الغيطاني... روح مبدعة لن يغيّبها الرحيل
| كتب مدحت علام |
1 يناير 1970
03:35 م
لم تكن زاوية «أماكن» التي كان يكتبها الروائي الراحل جمال الغيطاني كل يوم سبت عبر «الراي»، مجرد مقالة عابرة، بقدر ما كانت توثيقا لحياة وتأصيلا لمفاهيم تتعلق بالارتباط والعشق الذي يصل إلى مرحلة الوله بأماكن شهدت مراحل عمرية من حياة الغيطاني... عاشها وتأثر بها، ثم التصقت بذاكرته، إلى درجة أنه كان يتنفس عبقها وأجواءها، في كل أحاديثه، وحتى عبر أعماله الإبداعية.
ونقول رحل الغيطاني... في حين غفلة من أنفسنا التي اعتادت على متابعة كتاباته، وشغفه بالإبداع، رحل... فيما أصبح الحديث عن الفقد حدثا يدفع النفس إلى الحزن، والمشاعر إلى البحث عن حيلة نتمكن خلالها من المحافظة على هدوئنا المتألم، وعدم الارتطام بأرض صلبة كثيرة الأخاديد، والالتقاء مع هواجس مزعجة، ومؤلمة... لأن الرحيل استعر هذه الأيام ليقتلع من بين صفوفنا قامات إبداعية عربية متميزة، ليظل هذا العام هو عام الرحيل المفزع.
فرغم الغيبوبة الطويلة التي عاشها الغيطاني إلا أن «أماكن» كانت تحن إلى إطلالته التي تعبر عن إنسانية شفافة، وروح محبة للحياة، ومتفاعلة معها لأبعد الحدود.
إنه الروائي العربي الكبير جمال الغيطاني- رحمه الله- لم يكن مجرد مبدع يكتب الرواية والقصة القصيرة والمقال في تفاعل لافت للنظر بين الزمان والمكان معا، كما لم يكن فقط ذلك الصحافي، الذي تخصص في المجال الأدبي وأسهم بشكل ملحوظ في تطويره مصريا وعربيا، كما لم يكن فقط الباحث في دهاليز التاريخ المغرم بالتراث، العاشق لكل بقعة من بقاع أرض مصر... بقدر ما كان جمال الغيطاني الإنسان المحب لمن حوله، المدافع عن الثقافة بكل ما يمتلكه من أدوات ورؤى وأحلام... المتأمل في شتى صنوف الحياة، المدافع عن أماني البسطاء.
إنه صاحب رائعة «الزيني بركات»، تلك الرواية التي تستشعر في متنها، مدى التعلق الذي يوليه مؤلفها جمال الغيطاني بالشخوص والأماكن، والتفاصيل البسيطة، فيما استلهم من تجربته مع الاعتقال عام 1966 روايته «أوراق شاب عاش منذ ألف عام».
فعلى فراش المرض... رقد جسد هذا الإنسان وكنا نمني أنفسنا أن يعود إلى قرائه ومحبيه، إلا أن الغيبوبة استعرت في جسده، وفي الأوقات التي كانت ألسنتنا تلهج بالدعاء، كي يعود لنا سالما معافى، ممتشقا قلمه، الذي يتلمس الحلم ويبحث عن الأمل في المتون والهوامش والخيالات... جاء خبر رحيله، الذي ترك في مشاعرنا الكثير من الحزن والألم.
إنه ابن جهينة السوهاجية البار... الذي لم تغيّره حياته المديدة التي عاشها في القاهرة العاصمة، ولم تبدل مشاعر حبه لبلده جهينة قيد أنملة، فحافظ على شوارعها وبيوتها وغيطانها، طازجة كما كان يراها أيام طفولته، كما شغف حبا بمناطق القاهرة الأثرية القدية فكتب عنها بمزاج العاشق، الذي يزداد صبابة، كلما امتطى قلمه صهوة الكتابة.
إنها زاوية «أماكن»... التي توقفت بتوقف نبض صاحبها عن الحياة، «أماكن» التي كان الغيطاني مواظبا على الكتابة فيها منذ سنوات طويلة مضت، ولم يتخلف في يوم من الأيام عنها، ولم يتعذر بالأشغال أو الانشغال، فكانت مقالات تؤرخ للمكان والإنسان معا.
فـ «أماكن» كانت إطلالة تتباهى بتفاعلها مع الحياة، وبما تبثه من روح متجددة جديدة في خواطر وذكريات قديمة، ومن خلال ما كانت تبعثه من كلمات تتجول بحرية ويسر في التاريخ والتراث والأدب، وتضعنا على طرق معبدة، نمشي عليها إلى ماض، لا تزال أسراره الكثيرة مجهولة لدينا، بينما كان قلمه يحاول بكل حرص إزالة غموضه، لنراه بوضوح وصراحة.