د. سامي ناصر خليفة / بين الصدق ... و «الابتذال»!

1 يناير 1970 12:53 م

أسوأ ما مرت به صحفنا المحلية هي فترة الثمانينات حين مارس غالبيتها تضليلاً غير مسبوق في قلب الحقائق وتصوير الباطل حقاً والحق باطلاً لتخلق مجتمعاً محب لصدام حسين من دون وعي ومبغض لأعدائه بلا إدراك حين صوّروه أنه بطل عروبي وقائد قومي وحتى فقيه إسلامي، في وقت كانت الحقائق على الأرض في اتجاه آخر.

إعلام أخفى قتل صدام للكثير من أبناء شعبه وأخفى دوره المشبوه في خدمة أنظمة الغرب ورعاية مصالحها في المنطقة، وأخفى كل المآسي التي كانت تتعرض إليها الشعوب المجاورة للعراق! ثم في ليلة وضحاها يكتشف الجميع كم كنّا مخدوعين بالإعلام المضلل لتلك الصحف، وكم كنا ساذجين ونحن نصدّق كل ما يكتبونه أصحاب الأقلام البالية فيها! هذه الأقلام التي تغنى بعضها بالرئيس العراقي، كما لو كان قائداً جاءنا من كوكب آخر، والبعض الآخر كرّسوا أقلامهم طبولاً وأبواقاً ومزامير يردحون على جراح الوطن طمعاً في كسب رضاه، والبعض الآخر انهالوا على مجتمعنا تمزيقاً وتقطيعاً إرباً إرباً لا لشيء سوى لكون بعض فئاته مخالفة لنواياهم وأهوائهم!

ومع مرور الأعوام وتعرضنا إلى محنة الغزو كنا نعتقد أن تلك الصحف ستتغيّر جذرياً لما فيه خير وصالح شعبنا، ولكن - وللأسف الشديد - أن حالها اليوم لم يعد عن ماضيها ببعيد. وبعيداً عن التعميم أحسب أن من يتابع بعض الصحف المحلية سيجد كيف تتغنى بروح الفئوية لتفرق بين الوافدين والمواطنين في نبرة جلفة كارهة! وكيف تنبش عن كل ما يثير الفتن الطائفية بين أبناء الوطن الواحد وبنبرة جلفة حاقدة! وكيف تتبنى التمجيد والتهليل والتطبيل لأنظمة لا تقل عن صدام خطورة علينا. ولست هنا في صدد الإسهاب في هذا الأمر الواضح بقدر حرصنا على تبيان خطورة استمرار هذا النوع من الخطاب في خلق مجتمع أجوف من الداخل، مجتمع يعيش غسيلاً حقيقياً لأدمغته، والنتيجة خواء فكري ووعي مزيف وجلافة في التعاطي مع الشأن العام وبث روح الحقد والكراهية والخلاف حين الاختلاف. نعم إنها الصحافة السلبية التي تقدم لنا الابتذال السياسي والعهر الاجتماعي وتهول الأمور البسيطة وتهمش الأمور المهمة! وتبرز الضحايا على أنهم مجرمون وتتعاطف مع المجرمين وسراق المال العام وتقدمهم للمجتمع على أنهم ضحايا!

لغة غريبة الظالم فيها مظلوم والمظلوم فيها ظالم، والمصلحة فيها تبرّر الخنوع والخضوع لقوى الشر داخلياً وخارجياً، والمبادئ فيها تنتهك بعناوين الوطنية، وما أغرب مفهوم الوطنية المطروح على بساط التسويق الرخيص! ويا لهول مفهوم الولاء المزيف الذي ترسمه هذه الأقلام البائسة. باختصار إنه إعلام يساهم في تعجيل موت شعب لا يعيش حضارة، وأناس ماديون يحتضرون في جل جوانب تاريخهم، في وقت بات همّهم اليوم الجري وراء شهوات الدنيا وزخرفها. والأدهى والأمر من ذلك أن هناك منهم مازال مصدقاً نفسه حين ينضح قلمه سطحية وتضليلاً فتتلون شخصيته مع شخصية من يطبّل لها، ليصبح هجيناً مركباً من ملوثات الغث والسمين، ولا عزاء لك يا وطن!

ما صاح إلا من وجع

صفحة المقالات الأحد الماضي في جريدة «الوطن» ذكرتني بجريدة «البرافدا» السوفياتية إبان سطوة النظام الشيوعي في الستينات! والله هي الإهانة بعينها له أن يدافع عنه مثل هؤلاء!


د. سامي ناصر خليفة

أكاديمي كويتي

[email protected]