مُنِع من العودة جثة ودُفِن في باريس... وقُدّاس لراحة نفسه في مسقطه اليوم
أنطوان لحد... حكاية رجل إسرائيل في لبنان من «النصيحة» الملتبسة إلى موته... الأخير
| بيروت - «الراي» |
1 يناير 1970
05:16 م
بوفاة اللواء انطوان لحد قبل ايام في باريس، تنتهي مرحلة حساسة من تاريخ لبنان، ترتبط بالاحتلال الاسرائيلي للبلاد. والرجل العسكري، الذي كان احد الضباط الفاعلين والبارزين في الجيش اللبناني قبل ان ينشقّ عنه ويصبح قائداً لميليشيا «جيش لبنان الجنوبي» (المتعاملة مع اسرائيل) العام 1984، أثار في موته كما في حياته إشكالات وسجالات منعت مواراته في مسقط رأسه بلدة كفرقطرة الشوفية واستدعت دفْنه في العاصمة الفرنسية اول من أمس.
وانبثقت الاشكالية عن كون لحد منشقاً سبق ان طلبت وزارة الدفاع اللبنانية العام 2002 سحب الجنسية اللبنانية منه بعدما حاز على الجنسية الاسرائيلية، وعلى خلفية فراره مع الجيش الاسرائيلي اثر انسحابه من الجنوب العام 2000 وبقائه في الدولة العبرية. علماً ان القضاء اللبناني حكم عليه غيابياً بالاشغال الشاقة المؤبدة في 2003.
انطوان لحد ابن الشوف وُلد العام 1927 وتخرّج من المدرسة الحربية العام 1951، وتسلّم مناصب عدة في الجيش، قبل ان يتولى قيادة «جيش لبنان الجنوبي» العام 1984 خلفاً للواء سعد حداد الذي توفي جراء مرض السرطان. لكن لحد ابن المؤسسة العسكرية، لم يعلن انشقاقه عنها مع بداية إقامة بعض اللبنانيين علاقات مع المحتلّ الاسرائيلي، علماً ان الرواية تقول ان الرئيس الراحل كميل شمعون كلّفه متابعة الاتصالات بالاسرائيليين.
وسبق لـ لحد ان روى في حديث صحافي نُشر العام 2001 ان «المرحوم داني شمعون، نجل فخامة الرئيس كميل شمعون، وكنتُ أحبه كثيراً، اتصل بي العام 1984، بعد ايام من وفاة المرحوم سعد حداد، وقال لي ان الاسرائيليين يريدون التحدث معك لتتولى مسؤولية الميليشيا. ونصحني بالقبول. فوافقتُ على التحدث مع الاسرائيليين. فاتصل بي ضابط جيش كبير (...)».
ثلاث محطات طبعت حياة لحد، الاولى تَسلُّمه قيادة «الجنوبي»، والثانية محاولة اغتياله العام 1988 والثالثة خروج الجيش الاسرائيلي من لبنان العام 2000 والتحاقه به ومنْع فرنسا دخوله اليها وهو الذي درس وعاش وعائلته فيها.
المرحلة الاولى، كانت تتمة لما بدأه اللواء سعد حداد الذي كان ايضاً ضابطاً في الجيش اللبناني، وأرسلته قيادة الجيش الى الجنوب. والواقع ان رواية الاتصال بإسرائيل، ولماذا تحوّلت قوة الجيش اللبناني الى التعامل مع الدولة العبرية، هي رواية الحرب اللبنانية التي لا تزال تحمل وجهتيْ نظر. وتقول رواية حداد انه اضطر الى التعامل مع اسرائيل تحت وطأة الضغوط الفلسطينية على قرى المنطقة الحدودية وممارسات «فتح لاند» في تلك المرحلة ضدّ المواطنين الجنوبيين ولا سيما المسيحيون من ابناء القرى والبلدات الحدودية، الى ان تطوّر الوضع وانقسمت قوة من الجيش اللبناني تحت اسم «جيش لبنان العربي» وخاضت مواجهات مع أبناء القرى المسيحية التي دافعت عنها قوات حداد. علماً ان الجيش اللبناني كان أرسل حداد مع قوة عسكرية الى الجنوب، وعندما انقطع الاتصال بهم ووجدوا أنفسهم بين خياريْن أحلاهما مُر، اختاروا الاتصال باسرائيل.
توفي حداد، قائد «جيش لبنان الحر»، العام 1984 وذلك بعد عامين على الاجتياح الاسرائيلي الواسع النطاق للبنان في 1982 ومن ثم انسحاب الجيش الاسرائيلي من بيروت وبعض مناطق الجنوب واقامة ما أصبح يُعرف بالشريط الحدودي. وحين تسلّم لحد مهمة قيادة «جيش لبنان الحر» كان عديده أقلّ من ألف عنصر غالبيتهم من المسيحيين، لكن تدريجاً بدأت نواة «جيش لبنان الجنوبي» تتضاعف وتتحول من نواة مسيحية الى جيش مؤلف من ابناء القرى الحدودية والمنتمين الى كل الطوائف من دون استثناء، ليصبح عددهم العام 1987 نحو 2600 عنصر حسب ما يقول منذر جابر في كتابه التوثيقي «الشريط اللبناني المحتلّ».
تسلّم لحد قيادة هذا «الجيش»، وهو الذي كان معروفاً سابقاً بعلاقته بالاسرائيليين، لكنه حسب الرواية لم يكن متحمساً لقيادة هذا الجيش. وحسب ما كتبت الصحافية فيفيان صليبا في كتابها «الجنوب»، وهو عبارة عن سلسلة تحقيقات جنوبية، فان هدفه كان بناء جيش قادر على حماية الجنوب وبالتالي ضمان أمن شمال اسرائيل. وهو قال: «على الدولة اللبنانية ان تساعدني، يجب ان تؤمن قيادة الجيش اللبناني الرواتب لجنودي، فهم ليسوا اقل حقاً من الشيعي في اللواء السادس الذي قصف قصر بعبدا واليرزة وتقاضى معاشه رغم ذلك، ومثْله الجندي الدرزي الذي قاتل ضد الجيش في الشوف او سوق الغرب. عسكري على الاقل لم يقاتل الدولة اللبنانية».
وحسب جابر، فان جيش لحد شهد تدريجاً التفاتاً شيعياً كان من نتائجه «تعديل في النسبة الطائفية لتركيبة هذا الجيش والتي يجعلها المطلعون تتحدد مناصفة اسلامية - مسيحية». ولاحقاً انضمت الى «الجنوبي» عناصر درزية وسنية، ليصبح ممثلاً لتركيبة المجتمع الجنوبي برمّته والذي تعاون في مرحلة ما بعد إبعاد الفلسطينيين عن الجنوب مع اسرائيل.
شكلت مرحلة 1984 - 1988 مرحلة صعود قوة «جيش لبنان الجنوبي» واتخاذ الشريط الحدودي هيكليته النهائية، ولا سيما في أعقاب تطورات سياسية تمثلت في عدم توقيع اتفاق 17 مايو (1983 بين لبنان واسرائيل) وتداعيات حرب الجبل وما نتج من مؤتمرات لبنانية داخلية وقرارات دولية تتعلق بوضع الجنوب.
ركّز «الجنوبي» بقيادة لحد «جمهورية مصغرة» بسلطة محلية إدارية وعسكرية واقتصادية، لها إطارها وقوانينها وإن ظلت مرتبطة بالإدارة اللبنانية بطريقة او بأخرى، اضافة الى معابرها مع القسم اللبناني الذي يعيش خارج سلطة الاحتلال، وسجونها ومعتقلاتها، ومنها معتقل الخيام حيث اعتُقل مئات الشبان والشابات اللبنانيين ومنهم سهى بشارة.
وسهى بشارة، هي ابنة مناضل شيوعي وابنة دير ميماس الجنوبية، وقد نفذت العام 1988 محاولة اغتيال لحد في منزله. وكانت انتقلت من بيروت الى الجنوب وتعرّفت الى مينرفا، زوجة لحد، التي كانت تفتش عن مدرّبة للرقص تعمل في ناد في مرجعيون. وتوثقت علاقة بشارة بعائلة لحد ودخلت مرات عدة الى منزله حتى تعوّد عليها الحراس.
وتروي بشارة عملية الاغتيال وتقول في حديث صحافي: «الساعة السابعة والنصف مساء. كان أنطوان لحد جالساً بجانبي لا تفصل بيننا سوى طاولة عليها هاتف. ومقابلي، جلس صديقه وزوجته. وفي الجهة الأخرى، كانت مينيرفا وأولادها. سحبتُ المسدس، أطلقتُ الرصاصة الأولى باتجاهه، أردتُها تحية إلى أطفال الحجارة. ثم ألحقتُها برصاصة ثانية أردتُها دعوة إلى اللبنانيين كي يحملوا السلاح في وجه الاحتلال».
بدوره روى لحد قصة اغتياله ويقول كيف أمسك بيد بشارة بعدما أطلقت عليه الرصاصة الثانية وكيف صوّب المسدس الى السقف ونادى الحراس، قبل ان يُنقل إلى المستشفى حيث قضى نحو ثمانية أسابيع عانى خلالها مشاكل صحية خطيرة وخرج بشلل أصاب يده اليسرى، فيما نُقلت بشارة بعد العملية الى اسرائيل للتحقيق معها ثم اودعت في معتقل الخيام لعشرة أعوام ولم تخرج إلا العام 1998. وقيل الكثير عن التسوية التي أدت الى إطلاقها، وعن دور للرئيس الشهيد رفيق الحريري. علماً ان حملة تضامن كبيرة حصلت في لبنان والعالم للافراج عنها.
وسبق للحد ان قال إنه هو مَن قرر اطلاقها، وان منسق الشؤون الاسرائيلية اوري لوبراني طلب منه لاحقاً الإفراج عنها بطلب من السفير الفرنسي في تل ابيب، لكنه أطلقها بمبادرة منه.
الانسحاب الاسرائيلي
العام 2000 نفذت اسرائيل انسحابها من لبنان تحت وطأة أعمال المقاومة اللبنانية و«حزب الله». لكن الانسحاب لم يخلُ من تداعيات مباشرة، اوّلها ان الدولة العبرية نفّذت انسحابها بصورة فجائية وسريعة، الأمر الذي ترك عائلات ميليشيا «الجنوبي» وأفراده من دون اي حماية. وقد التحق المئات من الجنود مع عائلاتهم بالجيش الاسرائيلي وانتقلوا الى الدولة العبرية.
وفي المقابل فُتحت في لبنان قضية «المبعدين الى اسرائيل» وسط مطالبات بمحاكمات عادلة لمَن أسماهم «حزب الله» بـ «عملاء لحد والاسرائيليين». واتخذت القضية أبعاداً طائفية وقضائية وسياسية، في ظل مطالبات بتخفيف الأحكام في حق «المواطنين الذين عملوا مكرهين» في إدارات تابعة لـ «الجنوبي» او للاسرائيليين، كما رُفعت مطالبات بأحكام متشددة ضدّ الذين ارتكبوا جرائم معروفة ولم يكونوا عناصر عادية فحسب.
رحل لحد الى اسرائيل، علماً انه يملك منزلاً في باريس كانت انتقلت اليه عائلته للعيش فيه بعد محاولة اغتياله. لكنه مُنع من الاقامة في فرنسا. وهو روى الى «اذاعة فرنسا الدولية» بعد عام على خروجه من لبنان ان السفير الفرنسي في اسرائيل أبلغه انه ممنوع من زيارة فرنسا والإقامة فيها. وتساءل لحد «حين كنتُ أعمل مع الاسرائيليين وانا في لبنان، كنتُ أتردد دائماً الى فرنسا لزيارة عائلتي. أما بعدما تركتُ العمل معهم صرتُ ممنوعاً من الذهاب الى باريس؟». وحينها كان لحد يأمل في ان تُحلّ مشكلته تدريجاً ولا سيما ان عدداً من عناصر «الجنوبي» سبق ان ذهب للاقامة في باريس. وهو اعتبر آنذاك ان لفرنسا مصالح في العالم العربي وقد تكون سورية هي التي طلبت منْعه من الاقامة في العاصمة الفرنسية.
عاش لحد في تل بيب وافتتح مطعماً بطراز ايرلندي لكنه فشل. وكان يشكو دائماً من انه «سجين» في اسرائيل رغم انه يحمل جواز سفر اسرائيلياً، وانه يريد الانتقال للعيش مع عائلته في باريس.
نقم لحد على القادة الاسرائيليين لانهم اتخذوا قرار الانسحاب من لبنان من دون إعلامه، وهو في مذكراته التي نشرها تحت عنوان «في قلب العاصفة - مذكرات نصف قرن في خدمة لبنان» (بحسب مقتطفات نشرتها صحيفة «النهار» العام 2008) اتهم رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك بأنه «قرر الانسحاب السريع وتفكيك«الجنوبي»وأوعز لهذا الغرض الى«جيش الشاباك»وعناصره من اللبنانيين التابعين مباشرة الى رئاسة مجلس الوزراء الاسرائيلي بحرق جميع ملفاتهم وإتلافها قبل خمسة عشر يوماً من الانسحاب والتوجه الى اسرائيل قبل ثلاثة ايام من انسحاب القطعات العسكرية الاسرائيلية.
ولدى ترويجه لمذكراته قال لحد لصحيفة معاريف:«في فرنسا يصفونني بالإرهابي، وفي الدول العربية ينظرون إليّ كخائن، فقط هنا يمكنني البقاء». ولاحقاً تردّد ان باريس سمحت له بالإقامة فترات موقتة، وتدريجاً لم يعد موضوع لحد موضع بحث علني.
أنهى لحد حياته في باريس، وتوفي بسبب المرض، بعدما عاش بعيداً عن لبنان منذ العام 2000. وهو قال في مقابلة مع احدى المواقع الاسرائيلية انه لا يقبل العودة الى لبنان للمحاكمةلان المحاكمة لمَن اقترف جرماً او ذنباً وأنا لم أقترف اياً منهما، مضيفاً:«سأعود الى لبنان حين يتغير الوضع فيه. سأعرف متى وكيف سأعود وحينها لن يوقفني أحد».
مات لحد عن 88 عاماً. لكنه اوقف عن العودة ولو جثّة الى لبنان. وقد أثار موته كما حياته سجالاً بين الذين رفضوا إعادته الى لبنان ودفنه في مسقطه، وبين الذين يعتبرون ان الموت يمحو كل الذنوب والأخطاء، وان ما ارتكبه لحد ليس أكثر مما ارتكبه بعض السياسيين في لبنان، وان الأسباب التي دفعته الى التعامل مع اسرائيل اي العامل الفلسطيني، هي ذاتها التي دفعت لاحقاً حركة«أمل»الى قتال الفلسطينيين والتضييق عليهم وصولاً الى الغاء لبنان لاتفاق القاهرة الذي كان أحد اسباب انتشار السلاح الفلسطيني في لبنان.
مُنع لحد من العودة لكن من الأكيد ان احداً لن يستطيع ان يمنع اقامة قداس عائلي لراحة نفسه أُعلن ان موعده اليوم في كنيسة مار تقلا في مسقطه كفرقطرة، تماماً كما حصل حين توفي القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي المتهَم بالتخطيط لاغتيال الرئيس بشير الجميل نبيل العلم، اذ تمكّن النائب نديم الجميل من إقناع البطريركية المارونية بوقف القداس الاحتفالي له في جبيل العام الفائت، لكنه لم يستطع حكماً منع اقامة الصلاة لراحة نفس العلم. فحتى الموت وما قبله وما بعده، أصبح في لبنان وجهة نظر.
ومع وفاة لحد، استذكر كثيرون ما رافق اغتيال الرجل الثاني في هرَمية«الجنوبي»عقل هاشم على يد«حزب الله»في 30 يناير 2000 من سخط سياسي على خلفية مراسم الدفن التي اقيمت له في كنيسة القديس جرجس للموارنة في قرية دبل وكانت بعد تحت الاحتلال، اذ حضر ممثل البطريرك الماروني حينها مار نصرالله بطرس صفير مطران صور للطائفة مارون صادر الذي ألقى كلمة باسم صفير أعلن فيها تضامنه مع«دبل والمنطقة الحدودية في هذا المصاب الأليم». وقوبلت خطوة البطريرك باعتراضات وانتقادات من الموالين لسورية و«حزب الله».