نفايات وإعلام وأمن وسياسة وفساد وسفارات ونجوم وشعارات ودسائس ومندسون
«هايد بارك» بيروت... ساحة بـ «ملاعب كثيرة»
| بيروت - «الراي» |
1 يناير 1970
09:02 م
شكل ما يجري منذ 22 اغسطس الماضي وحتى اليوم في بيروت، مساحة جديدة لم يألفها الوسط السياسي ولا حتى الشعبي منذ عقود.
لم يعتد اللبنانيون فكرة التظاهر ولا الاعتراض الشعبي في صورة تلقائية. حتى الحرب في أشدّ لحظاتها، مع سياراتها المفخخة والتهجير والقتل والذبح على الهوية، لم تحرّك في اللبنانيين دوافع النزول الى الشارع والاعتراض على ما تقوم بها الميليشيات المسلّحة في حقّهم. حتى ان بعض المحاولات الخجولة التي كانت تدعمها منظمات شبابية وسلمية ضد الحرب لم يُكتب لها النجاح. اما الذين اعترضوا على الوجود السوري في لبنان لأعوام طويلة فبقوا في بيوتهم ولم يتحركوا ضد آلة القمع السورية، وظلوا يطالبون المجتمع الدولي بإخراج السوريين في لبنان، ما عدا التظاهرات التي كانت تشهدها بعض عواصم الدول الغربية حيث ينتشر اللبنانيون المغتربون.
مع تظاهرة 7 اغسطس 2001 ضد الوجود السوري، كسر اللبنانيون، وجلّهم آنذاك من المسيحيين، حاجز الخوف ونزلوا الى الشارع رغم القمع والملاحقات، لتصبح التظاهرات العام 2005 لاحقا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إحدى أهمّ ظواهر الحياة السياسية آنذاك، ولا سيما انها جمعت مختلف الطوائف اللبنانية. لكن قاسماً مشتركاً ظلّ يطبع هذه التحركات وهو الانتماء السياسي للحركة الاعتراضية الواسعة سواء من جهة 14 آذار او ما واجهها من تظاهرات لقوى 8 آذار.
للمرة الاولى يكسر اللبنانيون القاعدة، خارج كل الأطر الحزبية والسياسية، فيتظاهرون ضد الطبقة السياسية والفساد الذي يعمّ لبنان، بعدما عمّت النفايات الشوارع. ولا شك ان ما حصل منذ 22 اغسطس جديد بالمعنى الحرفي للكلمة على المجتمع اللبناني. وهو وإن انطلق من قضية النفايات، الا انه حرّك المياه الراكدة لبنانياً، وساهم في تفلت الذين عادة ما يقبعون في منازلهم، ليلتحقوا بالتظاهرات دعماً لحقوقهم المهدورة.
منذ اللحظة الاولى للتظاهرة التي دعت اليها مجموعة شبابية تحت اسم «طلعت ريحتكم» طُرحت أسئلة عمن يدعم هذه المجموعة ومَن يحرّكها، وكذلك الدافع الذي جعل اللبنانيين يحتشدون بكثافة في الشارع تلبية لمطلب هذه المجموعة التي وُلدت بين ليلة وضحاها، مع ان اللبنانيين يعانون منذ أعوام طويلة من انقطاع الكهرباء والمياه وتَلوُّثها ومن زحمة السير والطرق التي تملأها الحفر، ومن كمية من المشاكل الحياتية والاقتصادية التي لا تحصى.
ويقول احد الذين يواكبون التحرك ويدعمونه، من السياسيين المثقّفين، إن اللبنانيين وجدوا حلاً للكهرباء عبر المولدات الكهربائية وأصبحوا يشترون المياه المعقّمة وتوّعدوا على عجقات السير. لكن انتشار النفايات وروائحها وبلوغها عتبات منازلهم وعدم ايجاد مطامر بديلة بسرعة، في عزّ صيف حار، ساهم في دفع الناس الى الشارع.
قد يكون ذلك صحيحاً، ولا سيما ان الكلام عن الفساد في ملف النفايات ليس جديداً، وليست المرة الاولى التي يتم فيها تَداوُل معلومات عن تقاسم السياسيين حصصاً من أرباح جمع النفايات في لبنان عبر شركة «سوكلين».
لكن ثمة أسباباً اجتماعية والى حد ما سياسية وعوامل مختلفة ساهمت ايضاً في تأجيج هذه الحركة الشعبية وتطويرها وامتدادها. من دون ان ننسى عاملاً اساسياً ومركزياً هو الإعلام اللبناني ولا سيما المرئي إضافة الى شبكات التواصل الاجتماعي.
منذ اليوم الاول للتحرك، بدا ان مجموعات شبابية - بغض النظر عن انتماءات بعضها وخلفياتهم وارتباطات بعضهم بحسب الاتهامات المتداوَلة في بيروت بشخصيات سياسية او بجمعيات اميركية - هي التي تقود التحرك الفعلي. فهؤلاء الناشطون انطلقوا من تلقاء ذاتهم، ومن دون اي دعم سوى تضامنهم سوياً بعدما استفحلت قضية النفايات.
ومَن يتابع الدعوات التي أطلقوها على «الفايسبوك» و«تويتر»، لم يكن يصدّق ان حجم التجاوب معهم سيكون كبيراً. ومفارقة اليوم الاول للتظاهر انه جمع جمهوراً من الشابات والشبان من الجامعات اللبنانية على اختلافها، الخاصة والعامة. وأكثر ما تمّ التعليق عليه في اليوم الاول، كان شكل المتظاهرين الأنيق ولغاتهم الفرنسية والانكليزية التي كانت تملأ الساحة. تحدّث متظاهرون عن رفاقهم الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والميسورين الذين شاركوا في التظاهر احتجاجاً على عدم جمع النفايات وطلباً لمحاسبة وزير البيئة محمد المشنوق ووقف المناقصات التي كانت تدور حينها. كما جمع المطلب الاول المتعلّق بالنفايات فحسب عائلات بأكملها نزلت الى الشارع تأكيداً ان هذه المطالب تجمع كل الطبقات الاجتماعية في لبنان.
لكن كان يمكن للتظاهرة ان تقف عند هذا الحد، لو لم يحصل القمع الأمني بطريقة مفرطة في 22 اغسطس، ما جعل الحركة الاعتراضية تأخذ مدى أوسع. وهنا دخل دور وسائل الإعلام والمثقّفين والفنانين والصحافيين الذين تعاملوا مع التظاهرة منذ ذلك اليوم كحدَث يومي عبر الفايسبوك وشاشات التلفزة التي تحوّلت منبراً مفتوحاً لكل مَن يريد ان يعبّر عن رأيه مباشرة على الهواء. مع ان هذه التغطية لم تسلم من اتهامات بتمويلٍ عربي او بطلبٍ اميركي لجعل التظاهرة العنوان الوحيد منذ الصباح وحتى المساء.
وسرعان ما دخلت السياسة على خط التظاهرات وإن على غير يد السياسيين المسؤولين حالياً. اذ بدأت مجموعات من التنظيمات اليسارية ومن الشيوعيين السابقين والحاليين ومن تنظيمات نقابية، تتأطر هي ايضاً وتنزل الى الشارع تحت شعار «بدنا نحاسب». وأخذت هذه المجموعة حيزاً مهماً من الشارع ولا سيما ان المشاركين والمنظّمين اعتادوا التحركات النقابية والتظاهرات، وحصلوا على تأييد من بعض وسائل الاعلام التي وقفت الى جانب مطالبتهم بعدم حصر التظاهر بمطلب رفع النفايات، بل رفْع السقف السياسي للمطالبة بإسقاط النظام كله.
ورغم إشكالاتٍ حصلت بين المجموعتين وغيرها من المجموعات التي شاركت في الاعتصامات واحتلّت شاشات التلفزيون، الا ان الشارع تمكّن من استيعاب الحركة الاحتجاجية ومن جمع المتظاهرين على اختلاف تنوعهم ومطالبهم. فما بين المطالبة باستقالة وزير البيئة ومن ثم الاعتصام ضد شركة الكهرباء، وبين مطالبة فريق من المتظاهرين بإسقاط النظام كله وإسقاط الحكومة، تحوّلت بيروت ساحة اشتباك وأسلاك شائكة وصار لها موعد دوريّ مع التظاهرات.
ولا شك ان العنصر الأمني الذي دخل على الخط منذ اليوم الأول ساهم في تأجيج مشاعر اللبنانيين الذين انضموا الى التظاهرات، وخصوصاً بعد قمع الذين اندسوا فيها للتخريب على سلميّتها. لكن البرودة التي يتعامل بها السياسيون مع ما يجري وكأن شيئاً لم يكن، جعلت البعض يتساءل عن سرّ هذا الاستيعاب السريع الذي جعل هؤلاء السياسيين الذين شعروا في اللحظات الاولى بالخوف من حجم ما يحصل الى حد تشبيهه بالربيع العربي، يركنون لاحقاً الى مراكزهم وكأنهم تأقْلموا مع الحراك.
ولا شك ايضاً في ان دخول عامل الإحاطة الديبلوماسية الأميركية بالتظاهرات والطلب الى الحكومة اللبنانية عدم قمعها والحفاظ على سلميتها، أعطى لما يجري بُعداً دولياً جديداً. لكن الطلب الاميركي انحصر بهذا الجانب فقط. فلم يطلب الاميركيون من المجموعات الشبابية التظاهر ولا هم يدعمون في اي شكل إسقاط الحكومة. والاميركيون حرصوا على التأكيد لرئيس الحكومة تمام سلام دعمهم لاستمرار حكومته ولا سيما في ظل الفراغ الرئاسي.
على ان سلسلة مفارقات نجمت عن هذا التحول في المشهد اللبناني منذ اسابيع قليلة، والذي حوّل وسط بيروت قلعة أمنية وساحة اعتصام مفتوح، وأبرزها:
* ان هذا الحراك أوجد دينامية شبابية يُعوّل عليها بين مجموعاتٍ خرجت من اطار الاحزاب والتجمعات الفئوية والسياسية، لتطرح عناوين بيئة واجتماعية.
* لا شك ان الطبقة السياسية تضررت منذ اليوم الاول في شكل مباشر مما يحدث من تظاهرات واتهامات لها بالفساد، قبل ان تستعيد المبادرة في شكل او في آخر. لكن حاجزاً نفسياً كُسر في شكل جدي في التعامل مع هذه الطبقة التي تتصرف وكأنها بمنأى عن اي محاسبة.
وفي مقدمة لنشرة اخبار «المؤسسة اللبنانية للارسال انترناشونال» التي تخوض «حربها» الى جانب المتظاهرين، تجرأت على غير عادة ان تصف المشاركين في الحوار الذي دعا اليه رئيس البرلمان نبيه بري وضمّ أبرز القادة السياسيين في البلاد بأنهم «مجموعة عجائز ذكور». في حين ان المتظاهرين لم يوفروا انتقاداً ولا حتى شتيمة وتحقيراً في حق السياسيين الا واستخدموه، ورفعوا شعارات وصوراً تهينهم، الى حد رشقهم بالبيض اثناء مرور مواكبهم في اتجاه مجلس النواب.
ولم يميز المتظاهرون بين السياسيين، فعمموا اتهاماتهم بالفساد عليهم من دون استثناء، تحت شعار«كلن يعني كلن»، الى حد انهم اثاروا غضب رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» العماد ميشال عون لانهم ساووه بالذين تسلّموا السلطة وعاثوا فيها فسادا لسنوات.
* أسفرت التظاهرات عن بروز مجموعة من الناشطين والناشطات، الذين اصبحوا نجوماً تلفزيونيين، بصفتهم من صنّاع القرار والرأي وتحريك الشارع. وصارت اسماء مروان معلوف وعماد بزي وأسعد ذبيان ولوسيان ابو رجيلي متداولة في الاعلام المرئي والمكتوب، وباتوا ضيوف كل البرامج الحوارية، وصورهم تملأ الصحف. وأسفر الحِراك ايضاً عن دخول فئة من الفنانين على الحدَث، ولا سيما ان الحِراك جمع نخبة من الوسط الفني من ممثلين مسرحيين ومطربين وملحنين، كتبوا او شاركوا مباشرة في التظاهرات ولا سيما في ايامها الاولى.
* تحوّل الصحافيون انفسهم مادة للحَدث، فصاروا هم ايضاً جزءاً من الحراك الشعبي، ولا سيما بعدما اصبحت محطتا «ال بي سي» و«الجديد» داعمتين في صورة معلنة ومباشرة لهذا الحراك. ومَن لم يستطع منهم ان يعبّر مباشرة عن دعمه عبر صحيفته او شاشته، استغلّ «تويتر» او «فايسبوك» كي يقول ما لديه.
فالصحافي حسان الزين الذي كان اول مَن شارك ودعم النشاط، جعل من صفحته ومن موقع «تغريدة» منبراً للكلام عن المطالب وعن حق المتظاهرين وقال «نحن بحاجة الى شغل اجتماعي وثقافي وسياسي تأسيسي في كل لبنان، يرفد الشارع ويصنعه ويحميه بالتزامن مع النضال المباشر والانجازات الصغيرة على المستوى السياسي».
اما الصحافي في «الحياة» حازم الامين، الذي تحوّل منذ اليوم الاول مدافعاً عن التظاهرة، فوصف المتحاورين في ساحة النجمة بانهم «زعران الحوار» وصولاً الى قوله «تفوو على شرفكم». * ظهر الى الواجهة مثقفون وسياسيون عبّروا ايضاً عن رأيهم بما يجري ليقودوا نقاشاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً عبر الصفحات الالكترونية. فسأل المفكّر الدكتور احمد بيضون: «هل المواطنون مختارون في اعتمادهم شعاراً«كلن يعني كلن»؟ ام ان النظام نفسه مَن فرض عليهم هذا الشعار؟ وهل يقع اللوم على الناس اذا بدا المصير مظلماً ام هي هذه النخبة تفيض ظلمة على الحاضر المستقبل معاً، وما لنا نقول نخبة (..) اليست حثالة هي الاوفق لحقيقة مَن نسمي؟». دخل المثقفون والسياسيون من خارج النادي التقليدي على خط دعم حراك الشارع، وقال السياسي السابق في لقاء قرنة شهوان سمير عبد الملك على «تويتر»: لا تخافوا من هؤلاء الشباب خافوا عليهم.
اما سامر فرنجية نجل رئيس المجلس الوطني لمستقلي قوى 14 آذار النائب السابق سمير فرنجية فدخل على خط الحِراك ضد الطبقة السياسية قائلاً:«التظاهرة اليوم ضد جوقة من السياسيين العفنة وفجورهم المهين، ضد مواكبهم المفيّمة وزعرانهم المسلحين، ضدّ تحاليلهم السخيفة وضد سيجارهم المسائي ومهرجاناتهم الصيفية». ليختم كلامه بعبارة«التظاهر لاعلان، من تحت الغبار وفوق النفايات، حالة الازدراء العام».